هذه الرواية العالمية تعود دوما في ثوبٍ معاصر، فبيننا من يعيش انقسامًا مشابهًا، لا بين الخير والشر، بل بين «الرسالة والصورة»، بين ما يعتقد أنه واجبٌ مهني أو دعوي، وبين ما يفرضه عليه بريق الترند ووهج الشهرة، فتحت إغراء وعشق الأضواء يتحول الطبيب من ممارس للطب إلى «مؤثرٍ ترندي»، والداعية من مُربٍ ومُوجّهٍ إلى «نجمٍ رقمي»، وتتضخم الذات الرقمية (Digital Ego) على حساب الذات المهنية (Professional Ego)، ويبدأ التبدّل الخفي في البنية النفسية والسلوكية، وتُختصر الرسالة في العنوان، وتُقاس المصداقية بعدد المتابعين، ويُستبدل بالميزان الأخلاقي ميزان التفاعل، ومن وجهة النظر النفسية: يبدأ التحول بما يُعرف بـ«Narcissistic Validation»، أي البحث عن الإعجاب بوصفه وقودًا للرضا الذاتي. ومع مرور الوقت، تتكوّن سمات اضطراب الشخصية النرجسية (Narcissistic Personality Disorder)، حيث تنمو صورة متضخمة عن الذات (Grandiose Self-Image) التي ترفض النقد وتتجاهله، وتتعامل مع الجمهور بوصفه مرآة تفاعلية لا شريكًا في الوعي والرسالة.
كما تتسلل هنا أيضًا ملامح اضطراب الشخصية الهستيرية (Histrionic Personality Disorder) الذي يجعل صاحبه في حاجةٍ دائمة للفت الانتباه عبر الانفعال الزائد أو المبالغة العاطفية، فالكاميرا ووسائل التواصل لم تعودا وسيلتي توعية وتوثيق، بل أصبحتا مرآةً تُغذّي الأنا وتضخّمها عبر جرعاتٍ متكررة من الدوبامين، الناتجة عن الإعجابات والمشاهدات. وحين تتكرّر حلقات الظهور ويتعمق الارتباط بالجمهور، يبدأ العقل في ممارسة ما يسمى «Cognitive Dissonance»، وتعني «التنافر المعرفي» بين ما يعتقده الإنسان وما يمارسه فعليًا، حيث يقدّم الطبيب رأيًا غير دقيق أو مبالغًا فيه، ليحافظ على حضوره الإعلامي. وقد يختار الداعية موضوعًا صادمًا لجذب التفاعل حتى لو كان على حساب التوازن الشرعي أو العقلي. وفي هذه المرحلة، يصبح الهدف الخفي هو البقاء في الضوء، لا البقاء على الحق.
ومع استمرار هذا الانفصام يفقد الفرد وعيه بحدود مهنته ودوره، فيبدأ بما يُعرف بـ«اضطراب الهوية المهنية»، حيث يمكن أن يتكلم الطبيب في السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع، ويتناول الداعية قضايا الطب والنفس والتغذية بثقةٍ مفرطة، لأن مقياس الصواب هنا لم يعد الاختصاص، بل التفاعل وهوس الشهرة والظهور هو المنشود.
وهذا التحول ليس مجرد خطأ مهني، بل عرضٌ من أعراض الاعتماد النفسي على الجذب الجماهيري، وهو نوع من الإدمان السلوكي (Behavioral Addiction)، وتظهر فيه الآليات العصبية للإدمان الكيميائي نفسها: ارتفاع مؤقت في الدوبامين، يتبعه فراغ داخلي يدفع صاحبه للبحث عن جرعة جديدة من الاهتمام.
الكلمة حين تتحول إلى وسيلةٍ للشهرة، لا تبقى المعرفة معها نقية ولا الوعظ صادقًا، فالنية تتلوث تدريجيًا تحت ضغط حب الإعجاب وإدمان الشهرة، فيبدأ معها ما يمكن تسميته «انفصال الضمير عن الفعل»، حيث يبرر صاحبه كل تجاوزٍ بحجة النية الطيبة وتحقيق المصلحة العامة أو من أجل أهداف دعوية سامية. وفي هذا الانفصال تضيع الموازين، ويصبح التناقض مبررًا، والتصنع مهارة، والمصداقية مهمشة.
طلب الشهرة ليس خطيئة، ولكنه امتحان. فمن جعلها وسيلةً لخدمة الحقيقة بقي ضوؤه نقيًا، ومن جعلها غايةً غلبه الظل. الطبيب والداعية لا يخطئان حين يظهَران، بل حين ينسَيان لماذا ظهرا، وما بين د. جايكل، الذي كان يريد الخير، ومستر هايد، الذي عشق الظهور، وانتكاس الفطرة، يبقى الدرس واحدًا: كلّ من فصل رسالته عن ضميره، سيكتشف في النهاية أن الضوء الذي سعى إليه هو «ذاته» الذي أعمته.