سؤال ليس من السهل الإجابة عنه إجابة مباشرة، لأن صوره تختلف لاختلاف الأدباء والفنانين. ولكن أقرب القول فيه عندي، هو أن الإلهام ليس صانعاً للأثر الأدبي والفني، ولكنه كاشف عنه. فالأثر الفني يجب أن يكون موجوداً قبل الإلهام لا في وضعه النهائي بالطبع، ولكن في شكل عناصر متفرقة وأجزاء مبعثرة مختفية في ضمير المبدع الفني. مثل ذلك مثل الكنز المخبوء في جوف الأرض.
أنه موجود في مخبئه وسيظل موجوداً إلى أن تتعثر به يد المصادفة أو يد الوسيط.. ولا بد دائماً من وسيط لفتح الكنوز العميقة.
وقد حدثتنا الأساطير القديمة عن أولئك السحرة الذين كانوا يجوبون البلاد باحثين عن شخص بالذات، له من الخواص العجيبة مما يفتح به الكنز الدفين حتى سحرة اليوم من رجال العلم الحديث لا بد لهم من وسيط في شكل آلة حساسة تجس الأرض لتفتح لهم كنوز المعادن أو البترول.
هذه الأدوات الكاشفة، سواء أكانت من البشر أم من الجماد هي نوع من الإلهام. إلهام تجسد. إلهام قد اتخذ صورة مادية لأنه يكشف عن أشياء.
مادية•
أما في الأدب والفن. أي في شؤون الفكر والروح. فإن الإلهام لا يظهر لنا في صورة كيان مادي. بل يبرق من خلال فكرة أو إحساس. قد يقول لنا أحياناً بعض الشعراء إن كائناً بشرياً كالمرأة مثلاً قد ألهمهم أو أن كياناً مادياً كالصحراء مثلاً قد أوحى إليهم ولكن الحقيقة أن الذي ألهمهم وأوحى إليهم
ليس المرأة ولا الصحراء بالذات. بل الإحساس الذي انبثق، والفكرة التي لمعت من خلالهما.
فالإلهام الأدبي والفني هو أذن فكرة وإحساس، نور ونار، ضوء وحرارة.. شيء كالكهرباء.. يتوهج فجأة في رأس الفنان وقلبه، كما يتوهج المصباح، فإذا الحجرة المظلمة قد أضيئت عن رياش وتحف وآنية صدئة وأخرى من ذهب، وأحجار من طين وصخر وأخرى من ماس ويواقيت.. اختلط بعضها ببعض. وخيم عليها العنكبوت: وكأن قدما لم تطأها، وكأن يداً لم تمسس منذ أمد طويل.
وهنا يأتي دور الفن فيشرع في الترتيب والتنظيم والتنسيق، فيصنع العقود من اليواقيت، ويشيد الهياكل من الأحجار، وينحت التماثيل من الصخور، ويضع الرياش في منازله والتحف في مواضعها.. مقصياً ما لا يصلح له، منحياً ما ليس في حاجة إليه.
هذا الإلهام، أي المصباح الكهربائي الذي يضيء الحجرة المظلمة، أهو ضروري للفنان؟
هنالك من يقول إن الإلهام الحقيقي هو العمل نفسه، هو أن تنكب على الإنتاج ساعات متصلة. أو بمعنى آخر أن تدخل غرفتك المظلمة فتلبث فيها الأيام الطويلة تتحسس بيديك ما تحويه من أشياء محاولاً بفنك أن ترتب وتنسق وتخلق. أي أنك لا تقعد منتظراً ضوءاً يأتيك من الخارج، بل تعود الرؤية
في الظلام وامض في العمل في كل أوان.
هذا رأي لا بأس به.. فالعمل على كل حال أجدى من الانتظار.. وإن كانت لمحة من الضوء تريك في خلجة عين من شؤون حجرة ما لا تريك لمسة اليد في أعوام، ولكن جهاد اليد أشرف دائماً من سرعة البصر.
على أن الدقة تستوجب التمييز بين فن وفن.. فمن الفنون ما يستطيع في كثير من الأحيان الاستغناء بالعمل عن ذلك الإلهام الوهاج، ولكن من الفنون ما يحتاج كثيراً إلى ذلك النوع من الإلهام، فالشعر مثلاً قد لا يحتاج أحياناً إلى العمل المتصل بقدر ما يحتاج إلى رجفة مفاجئة من نار إحساس أو نور فكرة، لتتفجر عيونه وتتلألأ كنوزه.
1955*
* كاتب وأديب مصري «1898 - 1987»