يولد الإنسان وفي داخله فراغ يشبه الصحيفة التي قال الله عنها: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾، صفحة تنتظر لحظة الوعي لتُكتب بالحكمة والتقوى. ومنذ البدء تتساقط عليه أفكار الموروث ومقولات البيئة، كأنها محاولات لرسم ملامحه قبل أن يعرف نفسه، غير أن الهوية الحقيقية لا تُمنَح، بل تُزكى؛ لا تُلقن، بل تُستحضر حين يُقبل على التفكر، على مراجعة نفسه في مرآة الإيمان، وعلى ممارسة الوعي قبل الاتباع.
فوجود الإنسان لا يبدأ لحظة ولادته، بل حين يبعث الله فيه سؤالاً يشبه قوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، وحين يجرؤ على إعادة ترتيب ذاته بما يليق بكرامته التي منحها الله له، وبالصورة التي يريد أن يظهر بها بين يدي خالقه. ومن تلك اللحظة، يصبح كل قرار يتخذه امتداداً لذلك الوعي، وتجسيداً لصوته الداخلي الذي بدأ يستعيد علاقته بمصدره الأول.
فكل قرار واعٍ يتخذه الإنسان يشبه ارتعاشة ضوء ونور في داخله؛ لا يصنع ضجيجاً في الخارج لكنه يبدل اتجاهه من حيث لا يشعر. فالبدايات نادراً ما تأتي مكتملة، والطرق لا تكشف أسرارها إلا لمن سار. كثيرون يقفون على عتبة الانتظار بحثاً عن يقين لا يأتي، بينما الحقيقة أن اليقين يولد من الخطوة، لا يسبقها. ومن يسير نحو ما يشبهه، ولو ببطء، يمنح لخطواته قيمة تتجاوز اندفاع نحو مسار لا يعبر عنه. فالضوء لا يُكتشف، بل يُخلق بالمضي، والاتجاه العميق أصدق من سرعة عابرة.
ولأن الإنسان يُصنع بتكرار اختياراته لا بقرار واحد، تصبح رحلته إلى ذاته تراكماً من الأفعال الصغيرة التي تشبه تنقيح الصورة الداخلية يوماً بعد يوم. فالنجاح ليس ثمرة مثالية خالية من الخلل، بل أثر الجرأة؛ الجرأة على التفكير خارج المألوف، على العمل رغم حضور الخوف، وعلى الوقوف أمام الفشل دون السماح له أن يتحول إلى قيد. التجربة تعلم، والتعلم يصقل، والصقل هو الطريق الأقرب إلى الوصول.
ومع اتساع التجربة الإنسانية، يدرك الإنسان أن اختيار من يجاوره لا يقل أهمية عن اختيار الطريق الذي يسلكه. فالرفقة التي تمنحه أن يكون على سجيته دون حاجة لتبرير قرار أو تفسير قناعة، ما دام لا يؤذي أحداً، هي التي تمنحه القدرة على الاستمرار بخفة. وجود من يفهم أن الإيمان الداخلي لا يُشرح، وأن القرار الصادق امتداد للذات، يشبه نسمة طمأنينة تدفعه إلى الأمام دون أن تثقل خطوته.
ومن الحكمة ألا يحضر الإنسان في كل خلاف يُعرض أمامه، ولا يدخل في كل معركة تُقام على أطراف الطريق. فليست كل مواجهة قوة، ولا كل ردّ فعل ضرورة. الدخول في صراعات لا تمس جوهر الذات استنزاف متخفٍ في هيئة شجاعة. القوة الحقيقية أن يعرف متى يقاوم، ومتى يصمت، ومتى يترك الأشياء تمضي دون أن تسلب منه نقاءه. فالانسحاب أحياناً ليس انكساراً، بل حفاظاً على ما يستحق البقاء طاهراً في أعماقه.
ومع نضج الرؤية، يفهم الإنسان أن القوة ليست في خوض كل صراع، بل في انتقاء ما يستحق المعاناة. بعض المعارك تلتهم الأعمار دون أن تمنح معنى، والصمت قد يسمو على محاولة الانتصار، والتغاضي أحياناً أبلغ من المواجهة. فسلام الداخل ليس علامة ضعف، بل وعي يضع صفاء الروح فوق صخب الغلبة.
وفي آخر الرحلة، حين يضع الإنسان قراراته أمام مرآة الحقيقة، يدرك أن أعظم انتصار حققه لم يكن في بلوغ هدفٍ أو تجاوز عقبة، بل في اكتشافه أن مصيره كان دائماً أقرب إليه مما ظن. لحظة يفهم أنه ليس نتيجة العالم من حوله، بل فعلٌ مستمر في تشكيل ذاته، يتحول الوجود من عبء يحمل إلى معنى يُصنع.
هناك فقط، يصبح الإنسان صانع ملامحه، حارس بوصلته، ويغدو القرار الذي يتخذه اليوم بذرة الغد الذي يحلم به. فليتقدم بخطوات واثقة، وليرفع صوته الداخلي فوق ضجيج التوقعات، ولينصت لنداء الأعماق؛ فالعالم لا يمنح فرصه إلا لمن آمن أولاً بأنه يستحقها.
فالقرار الذي يُتخذ بشجاعة، حتى وإن كان صغيراً، قد يكون بداية حياة كاملة. والإنسان الذي يجرؤ على أن يختار، يجرؤ على أن يُولد من جديد.
وحين يهدأ الطريق من حوله، ويمتلئ قلبه بما أيقظه الله فيه من وعي، يدرك الإنسان أن كل خطوة صدق خطاها، وكل قرار اتخذه بإخلاص، كان استجابة خفية لقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾.
فما الإيمان إلا نور يُزرع، وما الاختيار إلا فعل يتقرب به الإنسان إلى الصورة التي أراد الله له أن يكون عليها. وحين تتسق الإرادة مع النية، وتتحول الخطوة الصغيرة إلى نداء نحو الحق، يفتح الله للعبد من أبواب التوفيق ما لم يكن يتوقعه. فليختر بما يليق بروحه، وليتقدم بثقة من يحمل في قلبه يقيناً بأن الله يرى، وبأن الطريق مهما التوى، فإن نهايته عند من قال: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.