في زحمةِ الأيّام، تتشكّل في القلب رغبةٌ صادقةٌ لا تهدأ؛ رغبةٌ في القرب ممّن نُحبّ، في المكوث حولهم بلا خوفٍ ولا ارتجال، رغبةٌ تُشبه الدعاء حين يخرج خفيفًا من صدرٍ يضيق ويسأل. ومع تلك الرغبة، يشتدّ في داخلي شعورٌ خفيّ: أنّني أريد البقاء... بل أريده بشدّة، ولكن دون أن أكون ثِقَلًا على قلبٍ، ولا حِملًا على روحٍ، ولا ظلًّا يطول حتى يُمَلّ.
وما يُؤلمني أنّي - رغم محبّتي لهم - أصبحتُ أمشي إليهم بخُطى متحفّظة، كأنّي أحمل قلبي بيدي كي لا يسقط، وأكتم لهفتي كي لا تُفهم خطأ. أريدهم...
أريد حضورهم، حديثهم، دفءَ مساحتهم، لكنّي لا أريد أن يكون وجودي عليهم وبالًا، ولا أن يكون اقترابي عبئًا يُستثقل أو يُحتمل على مَضض.
ولعلّ النفس تشير إلى ما قاله الشاعر:
«وإنّي أودُّ القُربَ، والقلبُ مُقبِلٌ،
ولكنّ خوفي من ثِقالي هو العِلَلُ».
بيتٌ يعرّي الحقيقة:
ليس خوفي من القرب... بل من أن أكون فيه ثِقَلًا يُتعب، أو ضيفًا يطول مقامه فيُثقل، أو روحًا تحضر بحبّ... فيُساء لها الظنّ ويختلّ ميزانها.
ومع هذا الحذر، لا أبتعد... لا لأنّي أستطيع، بل لأن قلبي لا يعرف الابتعاد أصلًا.
أحبّهم، وأشتاق إليهم، وأميل إلى مجالسهم ميلًا لا يعتدل، ولو تُرك لي الأمر لجلستُ قربهم كما تجلس الروح في موطنها الأوّل. لكنّي أتقدّم بخفوت، وأقترب بمهل، لأنّي أريدهم... ولا أريد أن أُثقِل.
فهذه المسافة اللطيفة ليست انسحابًا ولا هجرًا، بل صونٌ للمحبّة كي تبقى، وصيانةٌ للقلب كي لا يخجل، وحمايةٌ لعلاقتي بهم كي لا تذبل ولا تملّ.
فإن قلتُ: عذرًا على وجودي، فهو عذرٌ لا يُقصي ولا يُباعد، بل يحمل في طيّاته رغبةَ القرب بلا ثِقَل، والمحبّة بلا قلق.
عذرًا على وجودي... إن بدا خطوةً زائدة، أو حضورًا فوق الاحتمال؛ لكنّ قلبي - والله - ما أراد يومًا أن يبتعد، ولا اختار للنفس غيرهم بدلًا، بل أراد قربًا لطيفًا لا يزعج أحدًا، ولا يُربك أحدًا، ولا يُثقِل على أحد... قربًا يبقيني معهم كما أحبّهم... بصدقٍ يدوم، وبودٍّ يطول، وحنينٍ لا يَمَلّ ولا يَمِلّ.
ولأنّ الحقيقة - مهما خُفيت - تظلّ تحمل نورَها، أختم بما يطمئن القلب ويُسكن روعه:
أدنو بخفّةٍ لا تُثْقِل، وأحجبُ نفسي عن قُربٍ قد يَفْتِن،
وأبقى بصدقٍ لا يَخون، وأبتعدُ بلُطفٍ لا يَهُنُ ولا يَهِن.