اللقب الذي يُعدّ في الثقافات الأخرى وسامًا معرفيًا، يتحول عندنا إلى عبءٍ يثير الحذر والشك. حين نقول «فيلسوف» (Philosopher) في الغرب، نُشير إلى مفكر يتعامل مع الوجود والعقل والمعنى بمستوى تجريدي رفيع، وحين نقولها في مجتمعاتنا، نسمع همسًا ساخرًا: «وش يحسب نفسه؟»
هذه النظرة وحدها كافية لتفسير حالة الركود الفلسفي في العالم العربي، لأن الفلسفة لا يمكن أن تزدهر في بيئة تنزع عنها الشرعية الاجتماعية.
الفكر الفلسفي في جوهره تجريدي، لا يتعامل مع الوقائع السطحية، بل مع البنى العميقة خلفها. لكنه في غياب لقب «فيلسوف» يفقد هويته، ويذوب داخل مسميات أخرى فضفاضة مثل «كاتب» أو «مفكر» أو «مثقف». وهكذا يصبح النص الفلسفي عائمًا، لا يُقرأ كفلسفة، ولا يُقيّم بمعاييرها، ولا يُنسب إلى حقلها الطبيعي.
الفيلسوف الحقيقي يكتب من نقطة ما وراء الواقعي، يحاول أن يفكك المفاهيم نفسها لا الأحداث، أن يعيد تعريف المعنى لا أن يصف الظاهرة.
عدم التمييز بين الفيلسوف والمفكر والمثقف لا يضر بالكاتب وحده، بل يعطّل الوعي الجمعي بأهمية الفلسفة كمسار معرفي مستقل. لأن الفكر بلا تصنيف يفقد وظيفته، تمامًا كما يفقد العلم قيمته حين يُمحى عنه اسم «العالِم».
نُكرّر الخطأ ذاته مع العلماء العرب كما نفعل مع الفلاسفة: لا نمنحهم اللقب، وكأننا لا نصدق أن العقل العربي قادر على إنتاج معرفة حقيقية من ذاته.
خذ مثلًا فيزيائيًا عربيًا معاصرًا قدّم أبحاثًا تجريبية معتبرة، لن يلقبه أحد بـ«عالِم» إلا في سياق ساخر أو ترديد رسمي باهت. بينما في أي ثقافة علمية أخرى، يُقال «العالِم» (Scientist) بكل ثقة.
المسألة ليست لغوية، بل نفسية حضارية: المجتمع العربي ما زال يشك في قدرته على إنتاج فكر أو علم ذي قيمة كونية. لذلك يتعامل مع الألقاب الكبرى بحذر، كأنها مبالغات أو ادعاءات. لكن هذه الحساسية تجاه الألقاب ليست بريئة. هي تعكس أزمة أعمق: غياب الثقة في الذات المعرفية العربية.
حين نخجل من أن نقول «فيلسوف عربي» أو «عالِم عربي»، فإننا نُعيد إنتاج الفكرة الاستعمارية بأن المعرفة الحقيقية تأتي من الخارج.
وما دام الكاتب الفلسفي لا يُمنح مكانته الرمزية، ستظل الفلسفة عندنا هواية فكرية لا مشروعًا معرفيًا له جذور ومناهج ومكانة.
في العالم كله، اللقب يحمل وظيفة معرفية: الفيلسوف (Philosopher) يشتغل بالتفكير المجرّد وصناعة المفاهيم، العالِم (Scientist) يشتغل بالتجربة والملاحظة والأدلة، أما المفكر والمثقف فهما يعبران عن رؤى اجتماعية أو فكرية عامة. هذه الفوارق ليست تفاخرًا، بل تصنيفًا ضروريًا يحافظ على وضوح الحقول المعرفية. وحين نرفض اللقب، فإننا نغلق باب التخصّص، ونحول الفكر إلى مساحة رمادية بلا ملامح.
ربما حان الوقت أن نتصالح مع الكلمة. أن نقول «فيلسوف» كما نقول «شاعر» أو «روائي»، دون خوف من التهمة أو السخرية.
الفلسفة ليست تعاليًا على الواقع، بل أعمق محاولة لفهمه. والعالِم ليس متكبّرًا لأنه سمّى نفسه عالمًا، بل دقيقًا في تعريف مجاله.
التقدّم الثقافي يبدأ حين نسمّي الأشياء بأسمائها. وحين نعيد الاعتبار إلى اللقب، إلى الفكرة، وإلى من يصنعها. فكما لا يُبنى علم بلا علماء، لا يُبنى فكر بلا فلاسفة. والخطر الحقيقي ليس في استخدام كلمة «فيلسوف»؛ بل في الخوف من قولها.