في السنوات الأخيرة، برزت فئة من الأشخاص اتخذت من السخرية أسلوبًا دائمًا لانتقاد المجتمع وتصرفاته. ورغم أن النكتة في نطاقها الطبيعي لا بأس بها، بل قد تكون متنفسًا لطيفًا وتعبيرًا مرحًا عن موقف ما، إلا أن تكرارها بشكل مبالغ فيه وعلى مدى طويل يجعلها تتحول من مجرد طرافة إلى مصدر ضغط اجتماعي. فالسخرية حين تتراكم وتخرج عن نطاقها البريء تخلق حالة من الخوف لدى الأفراد، خوف من المجتمع ومن الخروج عن المألوف. وهنا تبدأ المشكلة الحقيقية؛ إذ تتحول هذه الفئة إلى ما يشبه لجنة وصاية شعبية غير معلنة، تتدخل في كل تفاصيل حياتنا وكأنها مسؤولة عن تصرفاتنا.

لم يعد الأمر مجرد تعليق عابر، بل أصبح البعض يمارس السخرية كعادة يومية: «لا تسافرون... لا تطلعون... لا تفعلون... لماذا تفكرون هكذا؟» وكأن لديهم حقًا مطلقًا في رسم حدود التصرف الصحيح والخاطئ. هذه السخرية المتكررة تُفقد الشخص حقه في أن يتصرف كما يشاء، وتُشعره أن أي قرار يقوم به سيكون تحت المجهر، وأن أي خطوة مختلفة ستعرّضه إلى موجة من التهكم.

ولم تتوقف السخرية عند موضوع أو جانب معين، بل امتدت لتطال كل مجالات حياتنا: حالتنا الوظيفية، حياتنا الاجتماعية، طريقة قضاء أوقاتنا، حتى جلسات الاستراحات التي يفترض أن تكون مكانًا للراحة والخصوصية. أصبحت كل حركة وكل عادة قابلة للتندر، وكأن الجميع مطالب بأن يعيش وفق «معايير المتسخرين».


ومع هذا التكرار يصبح الأثر أكبر من مجرد كلمات. فالسخرية الحادة حين تنتشر وتستمر، تخلق ضغطًا نفسيًا يجعل الناس يتحركون كأنهم داخل مجموعات مجبرة على اتباع نهج واحد فقط. لا أحد يريد أن يكون هدفًا للضحك أو مادة للتنمر. وكلما أراد شخص أن يتصرف بعفوية أو أن يجرب شيئًا جديدًا، قفزت إلى ذهنه تلك التعليقات الساخرة التي سمعها من قبل، فيتردد... ثم يتراجع، لا لأنه مقتنع بأنها فكرة سيئة، بل لأنه لا يريد أن يصبح موضوع نكتة.

وهكذا نخسر التنوع، وتختفي الجرأة، ويتراجع الإبداع. المجتمع الذي يخاف أفراده من السخرية يفقد شيئًا من روحه، ويصبح متجهًا نحو نمط واحد من التفكير والسلوك. ورغم أن الدعابة تبقى جزءًا جميلًا من حياتنا، إلا أن استخدامها كسلاح أو كقبضة ضغط تجعلها تتحول إلى وصاية متخفية. في النهاية، من حق كل فرد أن يعيش حياته كما يراها مناسبة، دون خوف من تهكم أو نظرة ساخرة، فاحترام اختلاف الآخرين ليس خيارًا، بل ضرورة لبقاء المجتمع متوازنًا وصحيًا.