لا تكشف ميزانية السعودية لعام 2026 عن أرقام مالية فحسب، بل تقدم شهادة واضحة على تحولٍ صحي يقوده الاستثمار في الإنسان قبل المنشآت. فالقطاع الصحي يظهر في الميزانية بوصفه مشروع حياة، تبنى من خلاله جودة المجتمع، وتصان فيه كرامة المواطن في كل مرحلة من مراحل عمره. الصحة هي نبض وطن، ورفاه شعب، ومستقبل أجيال. وفي ميزانية 2026، حضرت الصحة في قلبها كاستثمار في تنمية الوطن.

فحين تصل نسبة التغطية الجغرافية للرعاية الصحية إلى 97.4 %، فهذا يعني أن الرعاية الصحية لم تعد مرتبطة بمكان، ولا تقف عند المدن الكبرى، بل امتدت إلى المناطق النائية والقرى والضواحي، لتؤكد أن الصحة ليست خيارا مرتبطا بالموقع، بل حقا يكفله الوطن لكل من يعيش تحت سمائه.

وعندما يرتفع متوسط عمر الإنسان المتوقع إلى 79.7 عاما، فهذا الرقم وحده يروي قصة وطن اختار الوقاية، وتمكين أنماط الحياة الصحية، وتعزيز جودة العيش. فهو لا يمثل أعمارا أطول فقط، بل سنوات أفضل تعيشها أمهات، وأطفال، وشباب، ومسنون، في مجتمع تحميه برامج الصحة والتثقيف وأنظمة الوقاية قبل العلاج.


ضمن هذا الاستثمار، تظهر الرعاية المنزلية كامتداد واقعي لفلسفة أن الطب ليس حصرا على السرير الأبيض أو غرف العيادات داخل المستشفى. فقد استفاد 63 ألف شخص من خدمات الرعاية المنزلية، مقارنة بـ32 ألفا فقط في عام 2018. هذا النمو لا يعبر عن توسع في الخدمات فحسب، بل عن تحول في فلسفة الرعاية نفسها، حيث يمكن للمريض أن يتلقى العلاج داخل بيته وبين أسرته، دون عناء الانتقال أو انتظار الأسرة.

وفي غرف العمليات، تكشف الميزانية عن كفاءة عالية، إذ إن 90 % من العمليات الجراحية تنفذ في الوقت المحدد دون تأخير. هذا الرقم يعكس مستوى انضباط إداري وطبي، ويختصر مبادئ الجودة والسرعة، واحترام وقت المريض واحتياجاته.

أما في عالم الخدمات الصحية الرقمية، فقد أصبحت التقنية جزءا أصيلا من الرعاية. فقد قدم تطبيق «صحتي» 64 مليون خدمة طبية عن بعد، فيما أتاحت منصة «وصفتي» صرف 200 مليون وصفة لـ17 مليون مستفيد. هذه الأرقام تشير إلى منظومة مترابطة توفر الوقت والجهد، وتخفض تكاليف الوصول والحصول على العلاج، وتسهل التواصل بين المرضى والممارسين الصحيين في كل أنحاء المملكة.

كما تمتد رؤية الصحة إلى الفضاء الحضري، من خلال برنامج المدن الصحية الذي أعلن اعتماد 16 مدينة سعودية بمعايير عالمية تشمل 80 معيارا بما فيها مدن مليونية. هذه الخطوة تعني أن الصحة ليست داخل المستشفى فقط، بل في بيئة العيش، في الهواء المتنفس، في الشوارع الآمنة، والرياضة الممكنة، والغذاء المتوازن.

وتؤكد المؤشرات الأخرى قوة منظومة الاستجابة والطوارئ، حيث بلغ متوسط استجابة الهلال الأحمر السعودي 12 دقيقة داخل المدن و40 دقيقة خارجها، وهي أرقام تعكس جاهزية إنقاذ واستجابة تعتمد على بنية تنظيمية وميدانية مدروسة.

في جانب محوري آخر، تؤكد الصحة السعودية قيمتها عبر النتائج الوقائية، إذ بلغت نسبة الكشف المبكر لأكثر من 70 % من حالات السرطان في مراحل مبكرة، بينما انخفضت الأمراض غير المعدية بنسبة 40 %. وهذه المعطيات ليست أرقاما علاجية فقط، بل انعكاس مباشر لحياة أكثر صحة، وتوعية مجتمعية، وفحص مبكر، وسياسات حماية طويلة الأمد.

لا تقدم ميزانية 2026 سردا ماليا لقطاع الصحة، بل رؤية تقول بوضوح:

حماية صحة الإنسان ليست إنفاقا.. بل استثمارا في مستقبل وطن.