يمثل احترام حقوق الإنسان وصيانتها أحد أهم الالتزامات التي يحرص عليها المجتمع الدولي، وتوليها الأمم المتحدة ومؤسساتها المتعددة أهمية قصوى، كما تتمسك الأجهزة العدلية والحقوقية الدولية بمراعاتها في جميع الدول والمؤسسات، دون تساهل مع أي خرق أو انتهاك، وفي العاشر من ديسمبر من كل عام يستعيد العالم ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان، مستحضرًا تضحيات الرواد الذين كرسوا حياتهم دفاعًا عن قيم الحرية والكرامة والمساواة.

ورغم أن الأديان السماوية والثقافات الإنسانية أجمعت منذ فجر التاريخ على تكريم الإنسان وصون كرامته، إلا أن التطور التاريخي لقضية حقوق الإنسان أخذ مسارًا طويلاً ومتراكمًا، توِّج بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، الذي شكل خطوة محورية في تدوين الحقوق الأساسية للبشر، سواء في وثائق استرشادية كالمواثيق والمدونات، أو في صكوك ملزمة، مثل الاتفاقيات والعهود الدولية.

وربما يرى البعض أن حقوق الإنسان، رغم حضورها النظري في طليعة أولويات الدول الكبرى والمنظمات الدولية، ما تزال تُستخدم أحيانًا كورقة ضغط سياسي لفرض توجهات معينة على الدول، لا سيما دول الجنوب، مستشهدين بما يحدث في فلسطين وميانمار، وحالات النزاع الأخرى التي تشهد انتهاكات جسيمة دون قدرة المجتمع الدولي على ردعها بالشكل المطلوب، ولا شك أن ثمة ازدواجية تظهر في لحظات معينة، إلا أنها غالبًا استثناءات ظرفية تتغير بتغير موازين القوى والمعطيات الدولية، وقد أثبت التاريخ أن الجرائم التي يُتغاضى عنها مرحليًا لا تسقط بالتقادم الأخلاقي، وأن مساءلة مرتكبي الانتهاكات تظل احتمالًا قائمًا مهما طال الزمن.


وعلى صعيد الدول الإسلامية، فإن العناية بحقوق الإنسان ليست مسألة طارئة أو مستوردة، بل جزء أصيل من المنظور الإسلامي الذي قدّم مبادئ راسخة في هذا المجال، فالقرآن الكريم حافل بالنصوص التي تؤكد تكريم الإنسان: «ولقد كرّمنا بني آدم»، وتقرر حرية المعتقد: «لا إكراه في الدين»، إلى جانب منظومة واسعة من الحقوق التي جسدت سبقًا حضاريًا في حماية النفس والعقل والمال والعرض، ويتفرد التصور الإسلامي بالشمولية وبالربط بين الحقوق والمصالح العامة، وحماية المجتمع من كل ما يضر الإنسان أو يهدد حياته أو يقوض نسيجه الاجتماعي.

وعند النظر إلى واقع الدول الإسلامية في التوافق مع معايير حقوق الإنسان، نجد أن كثيرًا منها قطع شوطًا مهمًا في تبني منظومات وتشريعات متقاربة في جوهرها، مع تفاوت في مستوى التطبيق يعود لاختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية.

وهنا يبرز دور الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي باعتبارها الجهاز الاستشاري الحقوقي للمنظمة، حيث تعمل على مساعدة الدول الأعضاء في تطوير قدراتها المؤسسية، وتعزيز التزامها بالمعايير الدولية والإسلامية لحقوق الإنسان، وتضطلع الهيئة بدور محوري في دعم الحوار الحقوقي داخل العالم الإسلامي، وتنظيم المؤتمرات والندوات المتخصصة، وتيسير تبادل الخبرات والتجارب بين الدول الأعضاء، بما يتيح بناء سياسات أكثر اتساقًا مع التحديات المعاصرة ويحسّن مستوى الامتثال للحقوق والحريات الأساسية.

أما في المملكة العربية السعودية، فقد شكلت حماية حقوق الإنسان جزءًا راسخًا من مشروع الدولة منذ تأسيسها، تأسيسًا على مبادئ الشريعة الإسلامية التي جعلت كرامة الإنسان محورًا للحكم والإدارة، وقد تضمن النظام الأساسي للحكم نصوصًا واضحة تؤكد ذلك؛ فالمادة (8) تنص على أن الحكم يقوم على العدل والشورى والمساواة، فيما تؤكد المادة (26) حماية الدولة لحقوق الإنسان وفقًا للشريعة الإسلامية، وتأتي المادة (36) لحماية حرية الأشخاص، وعدم تقييدها أو توقيفهم إلا بموجب النظام، وتضمن المادة (37) حرمة المساكن، وتشدد المادة (38) على قاعدة «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص»، بما يعكس تكامل البنية التشريعية لحماية الحقوق.

ورغم الحاجة المستمرة لتحسين واقع حقوق الإنسان في دول العالم الإسلامي، فإن المشهد العام لا يدعو للتشاؤم؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة تقدمًا لافتًا في تبني إصلاحات وتشريعات جديدة، وتعزيز الأدوار المؤسسية، إلى جانب تنامي دور منظمات المجتمع المدني، التي أصبحت لاعبًا محوريًا في حماية الحقوق، والدفاع عن الفئات الأكثر حاجة من لاجئين ومهاجرين وأشخاص ذوي إعاقة ونساء وأطفال وغيرهم من الفئات المعرضة للتمييز أو العنف.

وفي النهاية، فإن ازدواجية المعايير -مهما ظهرت- لا تلغي القيمة الجوهرية لحقوق الإنسان، ولا منطق الالتزام بها، ولا الحاجة الملحة لبناء منظومات قوية تحفظ كرامة الإنسان في كل مكان، فالعالم اليوم أكثر قناعة بأن التنمية والاستقرار والأمن لا تتحقق إلا باحترام الإنسان، وصيانة حقوقه، وتوفير آليات فعّالة للمساءلة والإنصاف، وهي مبادئ متجذرة في قيمنا الإسلامية وضرورية لمستقبل أكثر عدلاً وإنسانية.