بعد رحلة امتدت قرابة خمسة عشر عامًا من الكتابة الأسبوعية المتّصلة، يبدو أن اللحظة قد حانت لأمنح نفسي شيئًا من الاستراحة. يا لها من رحلة فريدة: ممتعة حينًا، مرهقة حينًا، ومليئة بالمفارقات والدهشة في كل حين. شهدنا فيها أيامًا مشرقة لا تُنسى، كما واجهنا عواصف فكرية ورياحًا غير مواتية. وبقدر ما اجتهدنا في بلاط صاحبة الجلالة، فإن وفّقنا فمن الله، وإن أخطأنا فمن أنفسنا. حاولنا، بما أتيح لنا من جهد، أن نقدّم إضافة مختلفة للصحافة، إضافة تقوم على النوع والعمق، لا على التكرار والسطحية. وكانت أمامنا ثلاثة مبادئ ثابتة حكمت كل ما كتبناه: الموضوعية، ونقاش الأفكار لا الأشخاص، والشفافية الكاملة. فحيث نستطيع أن نلتزم العدالة، التزمناها، وحيث نستطيع ألا نتورّط في الشخصنة، تجنّبناها. وكنا نردّد دائمًا المقولة المنسوبة لإلينور روزفلت: «العقول الكبيرة تناقش الأفكار، العقول المتوسطة تناقش الأحداث، العقول الصغيرة تناقش الأشخاص...»، ونرددها في كل مرة وكأنها تذكير يومي بواجب الصحفي والمفكر. أما الشفافية، فكانت لنا قاعدة لا نتنازل عنها؛ لم تكن لنا مصلحة مع أحد ولا ضد أحد، ولم نتردد في الكتابة حتى حين اعتقد البعض أن ما نطرحه يتعارض مع مصالحنا الشخصية المفترضة. حاولنا أن نكون رقيقين في المواضيع التي تستحق اللطف، وأن نكون حازمين حين يتطلّب الأمر تحريك المياه الراكدة وهزّ «عشّ الدبابير». كتبنا مئات المقالات، تنقّلنا فيها بين مجالات شتى، بعضها كان جديدًا بالكامل على القرّاء لأنه لم يسبق لأحد طرقه، وبعضها كان من الحساسية بحيث تجنّبه الكثيرون. والمواضيع كثيرة إلى درجة يستحيل حصرها في مقال واحد، لكن يمكن القول بثقة إننا تناولنا قضايا تنبأنا فيها بمستقبل بدا حينها خياليًا، ثم تحقق لاحقًا. وهذه هي مكافأة من يناقش الأفكار لا الأحداث اليومية؛ إذ تتكون لديه قدرة على رؤية ما لا يُرى بعد. كتبنا عن السياحة في عام 2010 تقريبًا، وقلنا إنها ستكون مصدرًا أساسيًا للدخل لا ينضب، وإنها في منظور استراتيجي بعيد يمكن أن تقف إلى جانب النفط. كان هذا الكلام في زمانه مدعاة لدهشة الصحفيين والقرّاء واعتبروه مبالغة. واليوم، تُعلن وزارة السياحة أن إنفاق السياح المحليين والدوليين في عام 2024 بلغ 284 مليار ريال. تلك الفكرة التي تعامل معها البعض بشك في وقتها! أصبحت اليوم واقعًا اقتصاديًّا ضخمًا. وتحدثنا قبل سنوات عن الطاقة الشمسية والمتجددة وكتبنا العبارة التي أثارت جدلاً واسعًا آنذاك: «السماء في السعودية تمطر ذهبًا». وقلنا إن المملكة مرشحة لتكون من أرخص منتجي الطاقة الشمسية في العالم لامتلاكها أفضل الظروف البيئية، رغم مقاومة بعض الأصوات المهمة في حينه التي ادّعت أن الغبار أو الحرارة لا تلائم هذه التقنيات. واليوم، أصبحت المملكة بالفعل أرخص مصدر للطاقة الشمسية في العالم. كتبنا عن الفساد، في وقت لم تكن الكتابة عنه مرغوبة تمامًا. وكان الاعتقاد السائد حينها أن الفساد أمر مألوف في المنطقة ولا أمل في تغييره. ومع ذلك، كتبنا بإصرار، لأن الأمل كان يسكننا. ثم جاء التحول التاريخي بقيادة الأمير محمد بن سلمان، الذي واجه الفساد مباشرة ونظّف الدرج من الأعلى، كما يُقال. يومها دافعنا عن حملة الريتز الشهيرة في وقت فضّل كثيرون الصمت، حتى إن الصحافة العالمية أشارت إلى مقالتنا في ذلك الموضوع. وهاجمنا ما سمّيناه الخريف العربي، في وقت ركبت فيه الغالبية موجة العاطفة حتى وُضعنا في القائمة السوداء لدى الإخوان. لطالما اصطدمنا بثلاث فئات: الإخوان، والصحويون، والفاسدون. وكتبنا باللغتين العربية والإنجليزية تحليلات ودراسات حول إخفاقات الخريف العربي، بينما كان الغرب يحتفي به ويصفه بـ«الثورات الديمقراطية». دخلنا في نقاشات أكاديمية موسّعة، وأسهمنا في تفنيد الكثير من التصورات السطحية حوله. ولم نتوقف عند هذا الحد، بل خضنا نقاشات مع الصحافة الغربية نفسها. تحدّينا صحيفة الإيكونومست في ما كتبته عن مركز الملك عبدالله المالي (كافد)، وانتصرنا في ذلك التحدي قبل سنوات عبر مقال شهير بعنوان: «مركز الملك عبدالله المالي سيخيب ظنون الإيكونومست!». بكل فخرٍ وقفنا، وبكل ما أوتينا من وسائل وقدرات، وباللغات كافة، دافعنا دون تردد عن الأمير محمد بن سلمان خلال الحملة الظالمة الشرسة التي استهدفته. قلنا يومها، وبأعلى صوت: هذا هو أمل الوطن وقائده. دافعنا بعنفوان وشراسة، وتحدّينا الرواية الغربية، وكتبنا أننا على يقين بأن الأمير محمد سيخرج من تلك العاصفة أقوى مما دخلها، وأن الزمن سيأتي حيث سيقود المنطقة بصلابة، بينما أنتم أيها الغربيون ستبحثون عن وده وتتمنون التقارب معه، وهذا ما حدث! والحمد لله، امتلكنا مصداقية واضحة لسببين رئيسيين: الأول أننا كنا نردّ بعقلانية واحترافية وباللغة التي يفهمها العالم، والثاني أننا لم نكن على أي صلة وظيفية أو مالية أو مصلحية بالحكومة السعودية آنذاك، مما منح كلماتنا قوة وحيادية. ثم كتبنا عشرات المقالات عن رؤية الأمير محمد، وقلنا مبكرًا إنها ستكون المغير الأكبر في تاريخ المنطقة - game changer - وراهنّا على نجاحها بلا تردد. واليوم، تثبت الرؤية نفسها كل يوم، بالأرقام والإنجازات والحقائق، للقاصي والداني. وقبل سنوات طويلة، كتبنا كثيرًا عن أعمدة الاقتصاد السبعة ومحاولات تفعيلها، وذكرنا التعدين كعمود أساس لا يقل أهمية عن النفط والبتروكيماويات، ودعونا إلى إنشاء صندوق سيادي ضخم يستثمر في كبرى الشركات العالمية. وكتبنا مبكرًا عن النقل واللوجستيات، وعن السياحة الدينية، وعن المصرفية الإسلامية ومنتجات الحلال، وبقية أعمدة الاقتصاد التي جرى تفعيلها لاحقًا عندما جاءت الرؤية المباركة. ولعلّنا نفخر اليوم بأن المعادلة التي طرحناها مرارًا في مقالاتنا قبل سنوات طويلة، وهي إنشاء صندوق سيادي يستثمر في الشركات العالمية الكبرى ويكسب النفوذ ويحصل على مقاعد في مجالس الإدارات ويستخدم هذا النفوذ لنقل التقنية والمصانع للوطن، وتحوّلت بعد سنوات هذه المعادلة إلى واقع فعلي في صندوق الاستثمارات العامة (PIF). وتحدثنا مبكرًا عن التقنية الطبية والحيوية، وأسهمنا بقدر المستطاع في نشر وعي الخلايا الجذعية قبل عقود حين لم يكن يعرفها إلا القليل. وفتحنا باب النقاش وشرحنا علم وطب إطالة العمر الصحي، وقدمنا مقالات وفيديوهات علمية، وأسهمنا في رفع الوعي حول الطب التجديدي، وفحوصات التسلسل الجيني، والطب الجيني، وأهمية الذكاء الاصطناعي في الطب قبل سنوات من ظهور الموجة العالمية الأخيرة للذكاء الاصطناعي، ودعونا مرارًا إلى تبني المستشفيات الذكية. كما كتبنا كثيرًا عن الصناعات العسكرية، وغالبًا ما كان يستوقفنا الناس ليستغربوا كيف كنا نطرق هذا الملف مبكراً، وليشكرونا على رفع مستوى الوعي في هذا المجال الحيوي. هي مئات، بل مئات من المواضيع، ولكن كما يُقال «لا رحلة تدوم إلى الأبد؛ فحتى أطول الطرق لها نهاية». لم نكن عاطفيين؛ كنا موضوعيين قدر ما نستطيع ولكن، دعونا نعترف: هناك موضوعان لا نكتب عنهما ببرود، بل بحب وعاطفة وشغف: مدينة الرياض، والأمير - الملك سلمان. نحن نعشق الرياض رغم أننا ابتعدنا عنها عقدين من الزمن، ونحب ونجلّ ونحترم أبا فهد منذ طفولتنا، أبناء الرياض كما تربّينا. ماذا منحتني الكتابة؟ منحتني الفرصة لمحاولة رد جزء يسير من فضل الوطن، بالدفاع عنه وعن قادته، ومحاولة الإشارة إلى بعض مواطن التطوير. منحتني فرصة أن أكون صوتًا لبعض الفئات التي لم يكن لها صوت، وأعطتني شعور الرضا الداخلي، لأننا مهما اختلفنا أو اتفقنا كنا نسعى للمصلحة العامة ولتقدم هذا الوطن العظيم. وماذا أخذت منا؟ تكونت بعض العداوات، فليس الجميع يتقبل النقد. وأخذت بعض الفرص العملية والوظيفية، فليس كل من في الساحة يرحّب بمن يحارب الفساد أو لا يحب اللف والدوران أو يعتقد أن يشكل خطر عليه إذا أخطأ أو انحرف. ولا أنسى أن أستاذنا العزيز الدكتور عثمان الصيني دفع جزءًا من الثمن، من كثرة الاتصالات والضغوط التي كانت ترده بسبب بعض المقالات الشجاعة. أتوجه بالشكر لكل الإخوة والزملاء في جريدة الوطن على تعاونهم ودعمهم وصبرهم طوال هذه السنوات. ولا يعني هذا المقال توقّفًا عن الكتابة الصحفية، لكنه يعني أنني لن ألتزم بالكتابة الأسبوعية. ربما أكتب مرة أو مرتين في الشهر، بحسب الظروف والجو العام. فالكتابة الأسبوعية مسؤولية ثقيلة، والتزام وجهدٌ يتطلب وقتاً، خصوصاً لمن يحرص على جمع المعلومات الدقيقة والتحضير الجاد قبل كتابة أي مقال. لن نغادر بلاط صاحبة الجلالة؛ وربما نعود في صورة جديدة حين تتغير الظروف، وكما يقول المثل: «نهاية رحلة واحدة ليست سوى بداية رحلة أخرى». وربما أملك الآن الوقت للتفكير بجدية في ما ذكرته سابقًا، في كتابة كتاب نوعي فريد، بصورة مختلفة، عن الأمير محمد بن سلمان، بعد هذه السلسلة الطويلة من المقالات عنه، ولن تكون المهمة سهلة في حضرة قامة قيادية بحجم أبي سلمان! لا أعلم ما الذي يخبئه القادم، لكن كما قال توم ستوبارد: «كل خروج هو دخول إلى مكان آخر». وأتمنى أن يكون هذا «الدخول» الجديد ممتعًا، مفعمًا بالإثارة، مليئًا بالجمال والإنجاز. هذه الرحلة الطويلة، الممتدة عبر قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وعلميّة صنعت مزيجًا من التجربة والمعرفة، ومن الفرح والمعاناة، ومن الإيمان العميق بأن الكلمة الحرة مسؤوليّة، وأن الفكر لا يشيخ ما دام صادقًا. واليوم، حين أقول «إلى اللقاء»، فإنني لا أقولها كوداع نهائي، بل كاستراحة محارب أنهكته المعارك الفكرية، ويعرف في قرارة نفسه أن الطرق لا تنتهي، وأن كل نهاية تحمل في طياتها بداية جديدة... ولكن في وقتها المناسب، أو كما قال «جيفري تشوسر»: جميع الأشياء الجميلة لا بد أن تصل إلى نهايتها.