والخيال هو الذي يسوقنا في أعمالنا اليومية، إلى ميادين الإجادة والتفوق. سواء أكانت هذه الأعمال فكرية أو اجتماعية، أو علمية أو خلقية أو اقتصادية أو فنية، وهو الذي يقسرنا في لطف وهوادة إلى الشغف بمعالي الأمور، وهو الذي يضيء من أمامنا السبل، ويمهد بيديه الجبارتين العقبات؛ ويكسح من حوالينا الظلمات، وهو الذي يحدونا بصوته الرنان الجميل إلى التسابق في ميادين الحضارة والسمو، فكل أمة متأخرة يدعوها الخيال إلى السعي وراء الأمم التي سبقتها، لتفوز بلحاقها ومماثلتها؛ قوة ومنعة، وشموخا ورقة؛ وكل شعب راق ناهض؛ يبتكر له الخيال أمثلة جديدة رائعة من الحياة ونشدان الكمال. وبالخيال يعيش البشر؛ وبه ينعمون وبه يرحمون؛ فلولا هذا الخيال السائد الذي يملأ فراغ أدمغة من بيدهم زمام الأمور في العالم البشري؛ لولا هذا الخيال الصارخ بملء فيه منذرا بأهوال الحرب القادمة لولاه لوقعت الحرب العالية منذ سنوات؛ ولاصطلى بنيرانها المحرقة بنو الإنسان منذ أعوام. وإذا فللخيال الفضل في الحيلولة دون سقوط هذه الحضارة إلى مهاوي البوار، كما كان له من قبل عظيم الفضل في تكوينها وإشادة بنيانها عاليا في السماء.
وما من عمل من أعمال البشر وآمالهم وأحوالهم، إلا وتحوط به دائرة من دوائر الخيال، فأنت تتخيل النجاح في أعمالك، ومن ثم تقدم على العمل! مدفوعا بقوة خيالية حاكمة عليك من حيث تشعر أو لا تشعر. وأنت تتخيل التفوق في أي ميدان، فتظل جادا فيه، فتتفوق أو تخفق. وأنت تنخيل أن تحرز مكانة سامية في عالم الأدب أو الاجتماع أو المال أو الصناعة، فتعمل فتفوز أو تسقط. ومن أجل الحرص على توطيد مركز الخيال؛ قالت الحكمة العربية القديمة قولا خياليا: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا» ومن أجل حرص الخيال على توطيد مركزه في حياة الإنسان أوحى إليه أن يقول:
ارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان، ومن أجل الخيال تربي أولادك، وتحافظ على صحتهم وتبالغ في هذه المحافظة وتتمنى لهم كل خير وحصول كل نجاح وتفوق، وأنت تتخيل أن هؤلاء الأبناء متى كبروا واشتد ساعدهم واتسعت آفاق معلوماتهم؛ وسمت منزلتهم؛ فهم ينفعونك في أيام شيخوختك حينما يهن عظمك ويرق جلدك، وتنهد قواك، وتصبح من سقط المتاع، هم إذ ذاك يحنون عليك ويكفلونك ويحيطونك برعايتهم وعنايتهم بقدر ما حنوت عليهم: كفلتهم وحوطتهم برعايتك وعنايتك في أيام نعومة أظفارهم. فلهذا كله أنت تعتني بهم، ولهذا كله أنت بالغ أقصى حدود الاعتناء بهم، وأنت في كل هذا مدفوع بقوة خفية آسرة من قوى الخيال، ومحاط بدائرة واسعة من دوائر الخيال وأنتَ أو أنتِ تشغف أو تشغفين بالنسل من أجل هذا الخيال نفسه؛ وكم للخيال إذا من أثر باهر في حفظ الأجيال فقوته الغريزية الدافعة لمختلف الناس إلى نقطة واحدة هي العمل على الأنسال لما يجنونه من شق المنافع الحقيقية والمتخيلة، هي التي طالما كانت الحافز الأول أو الثاني على الأقل إلى التزاوج وتأسيس بنايات العائلات والأسرة الكبيرة قديما وحديثا.
.. ومن أجل الخيال تحافظ على سمتك وكرامتك، ومن أجله تحرص على أن تكون محترما محبوبا بين الناس أو مهيبا وأنت تجود بنفسك في ميادين القتال وبنفسك في ميادين البر والإحسان والوطنية، وأنت تصرف من وقتك الثمين، ومن فكرك القيم، وأنت تجهد نفسك وتكد ذهنك، وتسهر الليالي الطوال، عملا بالروح التي يلهمها لك الخيال في غدواتك وروحاتك، فأنت تخال أنك بكل هذا ترقى فوق علالي الشهرة المنشودة وتفوز بذيوع الصيت، وتتنسم ذرى المجد دون الأقران ويشار لك من بين الناس بالبنان، ومن ثم تتحصل ــ حتى فيما بعد تقلص حياتك هذه الفانية المحدودة ــ على حياة خالدة في قرارات أدمغة الأجيال المقبلة، وعلى أطراف ثغورهم الباسمة. وما الشهرة وذيوع الصيت والمجد وبقاء الذكر وخلود الاسم، إلا ألوان من الخيال مستطرفة بالغة الحد في الروعة والأسر وامتلاك زمام العقول والأبصار. والخيال هو سلوة المريض وطبيبه الأول. ومن نافذته الواسعة يطل دوما كلما اشتدت به الآلام، وتغلغلت في جسمه سهام الداء - إلى خمائل ذات بهجة من الحياة الصحيحة الممتلئة نشاطا وسرورا مقيما وزهورا فواحة. وطيورا صداحة، وهو نشوة الصحيح وموسيقاه التي يطرب دوما بسماع ألحانها الشهية وعزفها الجذاب.
والرواد والمكتشفون والعلماء الباحثون. الذين يقضون أوقاتهم ويقضون زهرة أعمارهم بين دوي المعامل، وهدوء المختبرات؛ وضجيج الآلات وأعماق المحيطات. وسراب البريات كلهم خياليون اتباع لظل الخيال. والخيال هو قائدهم ومرشدهم ورائدهم الأكبر في جميع ميادين أعمالهم وآمالهم وأحوالهم، فلولاه لما اهتدوا إلى سبل العمل، ولولاه لما أقدموا على العمل، ولولاه لما ثابروا على العمل، ولولاه لما تحملوا صنوف المتاعب، وألوان الآلام والمخاوف؛ ولولاه لما اقتحموا مشاق العقبات الفكرية والمالية. فالخيال ساحر ماهر يقرب لهم البعيد، ويقدم لهم بين كل ساعة وأخرى أكوابا طافية بمدام النجاح والفوز والسبق والخلود والربح والسمو المنشود، وطالما رفه الخيال عن المحبين، وطالما استأنسوا بسماع ألحانه وطالما مشوا إلى ضوء ناره. وطالما نهموا بلذيذ أحلامه؛ في غمضات الكرى وصحوات الصدود فبارقة أمل وقطرات خيال تهبط على قاب الحب من آفاق ديار المحبوب النائية مبشرة بدنو الوصال وزوال أسباب الهجران والحرمان تنعش قلبه وتجعل عذابه عذبا وكربه طربا وبؤسه نعيما وشقاءه سعادة.
1937*
*مؤرخ وكاتب وصحافي سعودي «1906 - 1983»