وقد احتلت أقسام الغذاء والتغذية في الجامعات السعودية مكانة علمية راسخة، رغم ما شهدته من تحولات في التسميات والتوجهات، من الاقتصاد المنزلي إلى علوم الأغذية والتغذية الإكلينيكية، وتنوّع تبعيتها بين الكليات التربوية أو كليات العلوم الطبية التطبيقية أو الزراعة أو كليات صحة المجتمع. ويبقى القاسم المشترك بينها جميعًا هو العلم المتعلق بإعداد الغذاء، وفهم مكوناته، ودراسة تأثيراته على صحة الفرد والمجتمع، مهما اختلفت زوايا التناول والتخصصات الدقيقة.
ورغم ذلك، ظل إعداد الطعام وفنون الطهي لفترة طويلة يُنظر إليه كتخصص أقل بريقًا مقارنة بالتغذية الإكلينيكية، ما أدى إلى عزوف بعض الأكاديميين عن الاستثمار البحثي في الصناعات الغذائية. غير أن هذا المفهوم بدأ يتغير مع استحداث هيئات وطنية متخصصة في فنون الطهي، والبحث والتطوير، والابتكار، والأمن الغذائي، ليصبح الالتفاف حول هذا المجال ضرورة علمية وتنموية. إنها سفينة الابتكار في الصناعات الغذائية التي ننادي أهل الاختصاص والمهتمين للانضمام إليها.
وفي هذا الإطار، يأتي قسم الغذاء والتغذية بكلية علوم الإنسان والتصاميم بجامعة الملك عبد العزيز نموذجًا عمليًا لهذا التحول، حيث دُشِّن مركز أبحاث الغذاء والتغذية ومعمل الطهي الابتكاري بالتعاون مع هيئة فنون الطهي، بوصفهما منظومة متكاملة للابتكار التطبيقي في الصناعات الغذائية. ويضم المركز مرافق متخصصة تشمل وحدات التقييم الحسي لدراسة تقبّل المستهلك والخصائص الحسية للمنتجات الغذائية، ومعمل الطهي الابتكاري لتطوير الوصفات وتحويل الأفكار البحثية إلى تطبيقات عملية، واستوديو تصوير غذائي احترافي يدعم التوثيق العلمي وبناء الهوية البصرية للمنتجات، إضافة إلى مرافق لدراسة المؤشرات والعلامات الحيوية المرتبطة بتناول الغذاء لتقييم تأثيراته الصحية. كما يحتضن المركز مساحات بحثية وتدريبية تخدم أعضاء هيئة التدريس والباحثين والطلبة، وتفتح أبوابها للطهاة السعوديين ورواد الأعمال في مجال الصناعات الغذائية، في بيئة واحدة يلتقي فيها العلم بالممارسة.
وقد جاء حفل التدشين ليعكس هذه الرؤية، من خلال ضيافة ابتكارية صُممت على أسس علمية رصينة، وقدّمت لضيوف الحفل من منسوبي الجامعة، والطهاة السعوديين، ورجال الأعمال، والمهتمين بمجال الصناعات الغذائية نموذجًا حيًا لتكامل المعرفة والإبداع.
ولم يكن هذا التحول في رؤية القسم وتوجهاته ليحدث لولا الدعم الكبير من البروفيسورة نهلة قهوجي، عميدة كلية علوم الإنسان والتصاميم، العميدة الأم والحاضنة للإبداع والتميّز، التي آمنت بتمكين منسوبات كليتها، ودفعتهن بثقة نحو التطوير والتحديث والمواكبة.
وهكذا تمضي سفينة الابتكار في الصناعات الغذائية، كمشروع وطني تتقاطع فيه المعرفة والاقتصاد والصحة، وتتكامل فيه التخصصات والطاقات. وفي الختام، يبقى النداء مفتوحًا: ( يا بُنيَّ اركب معنا) فالسفينة ماضية، والبحر واسع، والمستقبل يُصنع بأيدي من يختارون الصعود.
* أستاذ مساعد التغذية والعلوم النفسية
جامعة الملك عبدالعزيز