لعل من أكثر القضايا تعقيدا في معرفة المجتمعات الحديثة هي محاولة تفكيك المزاج العام للجماهير، وفهم الكيفية التي يتشكل بها الرأي العام ويتحول إلى قوة ضاغطة ومؤثرة. فالجماهير ليست كيانا واحدا متجانسا، ولا تتحرك بدافع واحد أو وعي موحد، ومع ذلك نراها في لحظات معينة تتجه نحو موقف واحد، وكأنها تنطق بصوت جماعي واحد. هذا المشهد يفتح بابا واسعا للتساؤل حول ما إذا كان هذا التوحد ناتجا عن وعي جماعي طبيعي، أم نتيجة عملية إدارة وتوجيه غير مرئية. هذا التعقيد دفع العديد من المفكرين إلى التعامل مع الرأي العام بوصفه نتاجا لعمليات منظمة، لا مجرد انعكاس مباشر للواقع. فالإنسان لا يتعامل مع الأحداث كما هي، بل مع صور ذهنية مبسطة تتشكل في وعيه عبر الإعلام والخطاب السائد. هذه الصور لا تنشأ بالضرورة من الكذب، بل غالبا من إعادة ترتيب الحقيقة، واختيار زوايا محددة للعرض، وتكرار سرديات بعينها حتى تصبح بديهية وغير قابلة للنقاش. من هنا نفهم أن الانفجارات المفاجئة للغضب الجماهيري نادرا ما تكون وليدة لحظة واحدة. في كل مرة نشهد فيها موجة غضب عامة، نميل إلى تفسيرها كرد فعل طبيعي على حدث معين، وكأن الجماهير استيقظت فجأة على شعور واحد. هذا التفسير، رغم شيوعه، هو أخطر أشكال التبسيط، لأنه يعفي الفاعلين الحقيقيين من المساءلة، ويغيب السؤال الأهم: كيف تهيأ هذا الغضب؟ ومن الذي اختار توقيته وحدوده؟ الغضب العام لا يولد من فراغ، بل غالبا ما يكون نتيجة تراكم طويل من الرسائل، والتلميحات، والتضخيم، وعزل الأحداث عن سياقها الحقيقي. يتم تحضير الأرضية النفسية تدريجيا، حتى يصبح الجمهور مهيأ لتلقي حدث ما باعتباره دليلا على خلل شامل، لا مجرد واقعة جزئية. عندها يبدو الانفجار عفويا، بينما يكون في حقيقته لحظة محسوبة بعناية. هذا الأمر نجده جليا في السياق السوري، حيث تبدو هذه الظاهرة أكثر وضوحا. فرغم السعي نحو الاستقرار وإعادة ترميم الدولة والمجتمع، تظهر بين الحين والآخر محاولات لإعادة إنتاج الغضب والتوتر داخل الشارع. لا يتم ذلك دائما عبر أكاذيب صريحة، بل عبر تضخيم حوادث فردية، أو استدعاء ملفات قديمة في توقيتات حساسة، أو تقديم الواقع بلغة سوداء لا ترى إلا الفشل والانهيار. الهدف ليس المعالجة أو الإصلاح، بل إبقاء المجتمع في حالة استنزاف نفسي دائم. المشكلة الأكبر أن هذا الغضب المصنوع لا يتجه نحو إصلاح منطقي وعقلاني، بل يتحول إلى أداة لتفكيك الثقة العامة، وضرب الاستقرار السوري وروابط المجتمع، وتحويل الاختلاف الطبيعي إلى صراع وجودي. يتم دفع الناس إلى ثنائيات حادة: مع أو ضد، معنا أو علينا، حيث يغيب النقاش، ويستدعى الانفعال، وتصبح الكراهية لغة سائدة. الفتن المصنوعة لا يقف خلفها دائما أعداء خارجيون. ففي كثير من الأحيان يكون الفاعلون من داخل البنية الاجتماعية نفسها: إعلام موجه، شبكات مصالح، شخصيات تبحث عن دور، أو جماعات ترى في الفوضى فرصة لإعادة تشكيل موازين القوة. هؤلاء لا يحتاجون إلى السيطرة الكاملة، بل يكفيهم خلق ضجيج مستمر، وتشتيت الانتباه، وفرض خطاب واحد يقصي كل صوت هادئ. في هذا المشهد، يتم تصنيع رموز بسرعة، وتقديم أشخاص بوصفهم صوت الجماهير أو ضميرها، ثم استخدامهم لتمرير خطاب معين، قبل أن يتم استبدالهم بغيرهم عند انتهاء الدور. القضية ليست في الأشخاص بقدر ما هي في الأدوار التي يؤدونها داخل مشهد محكم الإخراج، حيث لا يترك شيئا للصدفة، لا اللغة، ولا التوقيت، ولا حتى لحظات الصمت.

الجماهير السورية هنا ليست ساذجة ولا غافلة، لكنها مستهدفة. يتم اللعب على مشاعر حقيقية ومشروعة:

الغضب من الظلم، الخوف على مستقبل الأقليات أو المذاهب، والإحباط من تراكم الأزمات. هذه المشاعر، حين تدار بلا وعي، تتحول من قوة تغيير إلى أداة هدم ذاتي، ومن مطلب إصلاح إلى وقود لصراعات داخلية لا تخدم إلا من أشعلها. إذن نجد أن السردية الغائبة التي نادرا ما يتم الالتفات إليها هي أن الخطر لا يكمن فقط في الكذب، بل في الإطار الذي تقدم فيه الحقيقة. ليست كل موجة غضب حقيقية، وليست كل صرخة وعيا. أحيانا يكون الهدف إبقاء المجتمع في حالة توتر دائم، لان المجتمع المرهق والمنقسم أسهل إدارة وأضعف مقاومة. لهذا، قبل الانخراط في أي حالة غضب جماعي، يصبح من الضروري أن يطرح الشعب أسئلة واعية وبسيطة في ظاهرها لكنها حاسمة في نتائجها: من المستفيد؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟ وما الذي يتم تغييب الحديث عنه؟ كما أن الوعي لا يعني كبح الغضب أو إنكاره، بل فهم القوى التي تسعى إلى توجيهه واستثماره. وفي زمن صناعة الرأي الجماهيري، يبقى أخطر ما يمكن أن نصل إليه هو أن نغضب بصدق ونحن خارج إدراك الصورة الكاملة، وهو ما يتطلب من الحكومة السورية العمل الجاد على تعزيز هذا الوعي وحمايته.