منذ 280 سنة إلى الوراء عاشتِ البشريّة حَدَثًا ثقافيًّا أدّى إلى منعطفٍ تاريخيّ غيَّر جوهرَ مفهوم الثقافة والمثقّف في الغرب، حيث التقى فيلسوفٌ فوّار هو دنيس ديدرو وناشرٌ فذّ هو لو بروتون في العام 1745 في باريس، فقرَّرا إطلاقَ موسوعة معارف تَختلف في رسالتِها وروحيّتها عمّا كان سائدًا حتّذاك في العالَم، فقد صمَّما وأَطلقا ما يُعرف اليوم بالإنسيكلوبيديا الفرنسيّة. وهي، بحسب التسمية الدقيقة التي كانت تحملها، «قاموس مُعَقْلَن للعلوم والفنون والمِهن»، ظهر الجزء الأوّل منه سنة 1751.

شكّلت هذه الإنسيكلوبيديا الجديدة الشَيم الذي يُنبئ بقدوم مطر الحداثة على الغرْبَيْن الأوروبي والأمريكي، ثمّ على العالَم أجمع. ما كان موجودًا قَبلها اقتصرَ على موسوعة بريطانيّة أكاديميّة الطّابع، يَغلب عليها الوصف والتوسُّع بالشرح، وأخرى من تأليف عالِمٍ يسوعي فرنسي، تَسعى للشموليّة وتفيض بالمُعطيات الجغرافيّة والأنتروبولوجيّة. لكنَّ العَمَلَيْن كانا يعتمدان المَنهج الوصفي ولا يتعدّيانه، تبعًا لتقاليد الكتابة السائدة، فيما جاءت الإنسيكلوبيديا الفرنسيّة بالنوعيّة لناحيَتَيْ المضمون والتحليل.

جديد هذه الإنسيكلوبيديا أنّها أَطلقت من حيث لا تدري، وللمرّة الأوّلى في تاريخ العمران البشري، مشروعًا متكاملًا يغطّي العلوم القديمة والجديدة على السواء، جنبًا إلى جنب مع الفنون والآداب بفروعها المُختلفة، تُضاف إليها المِهن ومعارفها التكنولوجيّة. كلّ ذلك في سلّةٍ واحدة، من دون تقديم هذا النَّوع المعرفي على ذاك أو حصْر المسألة الثقافيّة بالفنون والآداب؛ إذ اعتمَد الإنسيكلوبيديّون الجُدد الذين التفّوا حول الفيلسوف ديدرو مُقارَبةً تمحْورت حول معارف العمران البشري ككلّ، لا تَقتصر على الثقافة بتعريفها الكلاسيكي.


فالعلوم حضرتْ هنا بقوّة وكذلك المِهن، مع تخصيص أحد عشر جزءًا من الإنسيكلوبيديا لوصْفِ العديد من المِهن العمليّة كالنجارة وصناعة السفن وصبّ المعادن وغيرها، وشرْحِها وتعليمِها، الأمر الذي أدّى إلى كسْر التقليد الثقافي السابق المُحتقِر للأعمال اليدويّة والمُكبِّر للأعمال الفكريّة، من ضمن ثنائيّة تقليديّة تعود إلى غابر الأزمان.

كتّاب الإنسيكلوبيديا الفرنسيّة كانوا يعملون من ضمن منظورٍ تنويري، مُعتبرين أنَّ عليهم نشْر أنوار العقل والفكر في كلّ اتّجاه، كي يَستفيد الجميع منها، بحيث تقوم المُجتمعات الأوروبيّة كافّة بتبديد الظلمات الموروثة عن القرون الوسطى، كما بإدخال المُراجعات النقديّة للعبوديّة واللّاعدالة الاجتماعيّة عليها، بعيدًا من دَيْدن التعصّبات الدّينيّة والمذهبيّة. ومن هنا جاءت هذه الإشارة الفريدة إلى «القاموس المُعَقْلَن» في التعريف الأساس لتشير إلى حضور النقد كجزءٍ لا يتجزّأ من المشروع ككلّ.

الإنسيكلوبيديّون

لم تُطلَق هذه التسمية على الذين قامت على أكتافهم مهمّاتٌ كتابيّة، أي دائرة معارف أخرى قبل ذاك، حيث كانت الموسوعة تُسمّى باسم صاحبها. فالعمل البريطاني المُشابِه كان يُنسَب إلى شخصٍ واحد هو تشامبرز. أمّا العمل الفرنسي السابق فكان يحمل هو أيضًا اسم صاحبه الأب اليسوعي تريفو الذي أطلقه.

وحدها الإنسيكلوبيديا الفرنسيّة اتّسمت بطابع العمل الجماعي واشتهرَ كتّابها بالعصبة الفلسفيّة - الأدبيّة -العلميّة - المهنيّة التي جَمعتْ تحت سقفٍ فكري واحد كوكبةً من المتنوّرين الأوروبيّين ضمّت أكثر من مئة وخمسين عَلَماً. من أبرزهم ديدرو في الفلسفة، وفولتير في الفلسفة السياسيّة، وروسّو في الفلسفة الاجتماعيّة والدّين والموسيقى، ومونتسكيو في القانون، ودالمبير في الرياضيّات، ودوبانتون في العلوم الطبيعيّة، وتانين في الجراحة، وكيسناي في العلوم الفيزيائيّة، ودولباخ في الموادّ السجاليّة، إضافةً إلى عددٍ كبير من معلّمي الحِرَف في صناعة الزجاج والسيراميك ونجارة البواخر والمراكب البحريّة ومصانع النسيج وحياكة الحرير وصبّ المعادن وتربية المحار والنحل...إلخ.

أي أنَّ الإنسيكلوبيديا جاءت شاملة ووافية لمعارف العصر والعصور السابقة كافّة، مع إبداء رأيٍ سديد في صِحَّة ما كان مُعتمَدًا ونفْعِهِ أو بطلانِه. حتى أنَّ أحد المُسهمين قد بَادَرَ إلى إدخال مادّة جديدة إلى دنيا المعارف المُبتكَرة في إحدى موادّ الإنسيكلوبيديا وهي «الإتيمولوجيا»، أي التأصيل التاريخي والتعاقبي للمصطلحات والمفاهيم، واسمه دي بروس.

ما ميَّز هذا العمل الجبّار الذي اخترقَ الأزمنة من دون غبار هو أنَّ الذين قاموا به لم يَعتمدوا منهجيّةً واحدة على الجميع أن يلتزم بها، بل تُرك لكلِّ مُسهِمٍ أن يُقدّمَ مادّته كما يرتئيه طالما أنَّه مُلتزم بالهدف الأكبر للمشروع، وهو ديموقراطيّة المعرفة التي اعتُبِرَت حقًّا لكلّ بني البشر، تحت سقف العقلانيّة والعقل.

وقد عبّرت صورة الواجهة في الإنسيكلوبيديا الفرنسيّة عن هذه الفكرة الرئيسة بلوحةٍ كبيرة تقوم في وسطها الحقيقة، مُحاطة بالأنوار، مع العقل والفلسفة على يمينها يكشفان عن وجهها. تجديد أنماط التفكير

صرَّح الفيلسوف دنيس ديدرو في خضمّ الضجّة التي أثارتها الإنسيكلوبيديا أنَّه رمى من خلال موادّها إلى «تجديد أنماط التفكير»، أي أنَّ هدفَ المعرفة التي كانت تقدّمها كان يَتجاوز النقل المعرفي البحت في اتّجاه فتْح آفاقٍ جديدة للعقل. وهذا هو تحديدًا ما أَخاف مُمثِّلي المعرفة في ذلك العصر، وعلى رأسهم رجال الدّين بثقافتهم التراثيّة المسقوفة والمُغلَقة.

فما أن صَدر الجزء الأوّل من الإنسيكلوبيديا حتّى هَرع هؤلاء إلى بلاط الملك مُلتمسين منه قراراً يَقضي بوقف طباعة هذا العمل، في العام 1752، بحيث إنَّ هذا القرار صَدر بعد فترةٍ وجيزة متَّهِماً هذا المشروع الجديد بالآتي: «العمل على تحطيم السلطة المَلكيّة، وإثارة روحيّة استقلاليّة الأفراد التي تفضي إلى الفتنة، ونشْر الخطأ والفساد الأخلاقي، ومُعاداة الدّين مصحوبة بتمجيد الكفر».

كانت جميع هذه الاتّهامات خطيرة جدّاً ومن العيار الثقيل. كما أنَّها كانت تُشير إلى بزوغ فجرٍ جديد لحربٍ ضروس تلوح في الأُفق بين ما سيُعرَف لاحقًا بمُمَثّلي النظام القديم ومُمثّلي النظام الجديد. إلاّ أنَّ مَن أنقذ الموقف وسحبَ فتيل الانفجار، كوسيطٍ موثوق، كان الناشر. إذ إنَّ هذا الأخير تعهَّد بمُراجعة جميع الموادّ من الآن فصاعدًا، من دون المساس بجوهرها، بحيث عادتْ عمليّة النشر إلى طبيعتها لمدّة ستّ سنوات مُتتالية. إلاّ أنَّ عاصفة اعتراض ثانية عادت وهبَّت سنة 1759، مُستعيدةً الاتّهامات نفسها. فأوقِفَت مجدَّدًا الأجزاء المتبقّية من الإنسيكلوبيديا، أمّا الطعن فكان قد جاءَ هذه المرّة من طَرَفِ برلمان مدينة باريس.

غير أنَّ الانتشار الواسع للأجزاء السابقة في العواصم الأوروبيّة، وكما محلّيًّا (حيث ارتفع عدد نسَخ الطبعة الأولى إلى 4250 نسخة، في حين لم يكُن يُطبع في حينه سوى 2000 نسخة كحدّ أقصى من أيّ كتاب)، وتعاظُم الرأي العامّ المؤيّد داخل البلاد، أمَّنا درعاً واقية ضدّ حملة المُعترِضين المُحافظين. كما وقفَ الوزير الفيلسوف في الحكومة الفرنسيّة مالزيرب إلى جانب الدّاعمين لمشروع الإنسيكلوبيديا. كما انضمَّت إلى صفوف داعمي الإنسيكلوبيديا أيضًا خليلة ملك فرنسا، الشهيرة مدام دي بومبادور.

من ناحيته، غدا الناشرُ النبيه يَطبع الأجزاءَ المتبقّية من هذا العمل الضخم الذي ضمَّ 28 جزءًا (17 مخصَّصة للفكر والفنون والآداب والعلوم، و11 لما بودِر إلى تسميتها بالعلوم الميكانيكيّة) في سويسرا وإيطاليا اللّصيقتيْن بالحدود الفرنسيّة وغَير الخاضِعَتَيْن لسلطة ملك فرنسا. غير أنَّ النّاشر ظلَّ يُشير إلى أنَّ مكان النشر كان باريس، لكون دار نشره تقيم وتعمل وتتابع النشر من عاصمة الأنوار، حفْظاً لموطن الإبداع ورَحَم النشأة الأساس. ولادة الحداثة مع ولادة متَّحَد العُلماء باتَ واضحًا الآن أنَّ على مفهوم مُبتكَر وجديد قامَ مشروعُ الإنسيكلوبيديا الفرنسيّة. وهذا المفهوم الذي ظهر ميدانيًّا قَبل أن يَكتسب الاسم البرّاق الذي يحمله اليوم هو «متَّحَد العُلماء» (community of scientists). ميزة هذا المفهوم الذي راجَ جدًّا أنَّه لا يعني مجرّد تجمُّع لعددٍ من أهل العِلم، ولا تصحّ ترجمته بـ «جماعة العلماء» (group of scientists)، إذ إنَّ المسألة لا تَقتصر في مفهوم «متَّحَد العُلماء» الحديث على التجاوُر الاسمي أو المكاني بين مجموعة من أهل العلم التقليديّين، حيث يُعد كلّ واحد منهم أنَّه نابغة أو علّامة وخاتمًا للعِلم، بل يتعلّق بالانصهار الذهني التامّ والموحَّد في مشروع علمي يَتجاوز الأشخاص ويصبو إلى تغييرٍ نوعيّ في مُعادلةٍ علميّة ومعتمَدة سابقة. فالمتَّحد العلمي ثوريّ بهذا المعنى.

ولهذا السبب جاءت ولادته عسيرة ومتأخّرة، لكونه لم يكُن يتوافق مع السرديّات العلميّة التقليديّة السائدة اجتماعيًّا وسياسيًّا بين الشعوب كافّة حتّى الماضي القريب، بل إلى يومنا هذا في الحالة الثقافيّة العربيّة.

فالحقيقة هي أنَّ مفهوم مُتَّحد العُلماء قد أبصر النور مع الإنسيكلوبيديا الفرنسيّة وشَهِدَ تبلْورَهُ الأوّل في أحشاء مشروعها الذي تجسّد بمُتَّحد لمُتَّحَدات علميّة في مجالات ثلاثة هي العلوم والفنون والمهن، وشكَّل أول أنموذج للحداثة المعرفيّة، شاملة تعابير الإبداع البشري القائم على استيلاد نووي للعلوم والفنون والآداب والتكنولوجيا على حدّ سواء؛ إذ إنّ الإنسيكلوبيديا الفرنسيّة لم تكُن مجرّد موسوعة معارف كمّيّة، بل قدّمت أنموذجًا إرشاديًّا جديدًا للباحثين عن الحقيقة والحداثة في كلّ المجالات؛ جَمعتْ كوكبةً من المُتَّحَدات العلميّة المتفرّقة وجعلتهم يتكاملون في مشروعٍ حديث قَبل أوان الحداثة.

ومن هنا بإمكاننا القول إنَّ مشروع مُتَّحَدات العُلماء المُشارِكَة في صناعة الإنسيكلوبيديا الفرنسيّة هو الذي أَطلق تلك الثورة المعرفيّة البيضاء، التي بُنيَت عليها بَعد أقلّ من نصف قَرن الثورة الفرنسيّة، كثورة سياسيّة نوعيّة، وبعد قَرن الثورة الصناعيّة، ثمّ التكنولوجيّة الظافرة اليوم. فعندما تتحرَّر الثقافةُ من قيودها تَجود المعرفةُ البشريّة بالإبداع في كلّ مجال.

لذلك بإمكاننا القول اليوم: شكرًا للإضافة النوعيّة التي قدّمها لنا الإنسيكلوبيديّون ذاتَ يوم. ولنتذكّر دلالة ما حصل لغاليليو غاليليه في العام 1634، عندما حوصر وأجبر على التنكّر لنظريته العلميّة، حيث لم يكن من وجود لمُتَّحَدات علميّة، بل ما كان موجودًا في جامعة بيزا التي كان ينتمي إليها غاليليه، كما في جامعة بولونيا القريبة منها، كانت جماعات من العلماء ليس إلاّ. وجماعات العلماء التقليديّة كالعشائر، لا تدافع سوى عن مصالح أفرادها الشخصيّة، على عكس المُتَّحَدات العلميّة الحديثة التي تضع الحقائق العلميّة فوق كلّ اعتبار.

فهل مِن دَرْسٍ بالنسبة إلينا، نحن مَعشَر عَبَدَة السياسة وعصبيّاتها؟

*عالِم اجتماع من لبنان

ينشر بالتزامن مع دورية أفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي.