لم يعد السؤال في الطب الحديث: هل نستطيع أن نقوم بهذا الإجراء؟ بل هل ينبغي أن نقوم به أساسًا؟

في عيادة حديثة قد يخرج المريض محملا بفحوصات متفرقة ووصفات متعددة، يشعر بأنها دليل على اهتمام الطبيب وحرصه. لكنه لا يسأل، وربما لا يُسأل، إن كان كل ذلك ضروريًا فعلا، أو إن كانت هذه الإجراءات ستحسن صحته، أم أنها مجرد محاولة لتهدئة قلق لا يستند إلى حاجة طبية حقيقية.

في السنوات الأخيرة، لفتت مبادرة Too Much Medicine التي أطلقتها مجلة BMJ الأنظار إلى أن الإفراط في التشخيص والعلاج تحول إلى تهديد حقيقي لصحة الإنسان، وإلى هدر واسع للموارد في رعاية لا يحتاجها المرضى. فالمسألة لم تعد مجرد ميول فردية، بل جزءًا من منظومة عالمية يتداخل فيها توسع تعريفات المرض، والاعتماد بشكل مبالغ فيه على الفحوصات الشاملة، وتأثير المصالح التجارية، وارتفاع توقعات المرضى، والخوف من الدعاوى القضائية، والقلق من الشكاوى وتبعاتها والانبهار بتقنيات تشخيصية جديدة تمنح شعورًا زائفًا بالأمان.


غير أن المشكلة ليست في العلم ذاته، بل في حدود استخدامه. فالتقدم الهائل في قدرات التصوير الطبي والتحليل جعلنا قادرين على اكتشاف حالات لم تكن لتحدث ضررًا لو تركت دون تدخل، كما جعل البعض يظن أن المزيد من الكشف يعني صحة أفضل، وأن اكتشاف المرض في وقت مبكر جدًا سيغير بالضرورة مصيره. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فالكشف قد يفتح سلسلة طويلة من الإجراءات التي لا تضيف قيمة حقيقية، بل قد تدخل المريض في دائرة من القلق والتدخلات غير المبررة.

ويظهر هذا التعقيد بوضوح في الجدل حول الفحوصات المبكرة. فالكشف المبكر ليس خطأ في ذاته، بل هو أداة وقائية مهمة جدًا حين تستخدم في مكانها الصحيح وبناء على دليل علمي واضح. المشكلة تبدأ حين يتحول الفحص من وسيلة وقاية إلى روتين عام لا يميز بين من يحتاج ومن لا يحتاج، أو حين يستخدم اختبارا لا يؤدي اكتشافه للمشكلة إلى تحسين صحة المريض. ولعل المثال الذي طرحه باحثون في BMJ حول سرطان الغدة الدرقية يختصر المشهد فقد تضاعف تشخيص أحد أنواع سرطان الغدة الدرقية منخفض الخطورة ثلاث مرات خلال ثلاثين عامًا، بينما ظل معدل الوفيات ثابتًا، مما يعني أن معظم ما اكتشف لم يكن سيؤثر على حياة المرضى أصلًا، بل ربما قلل من جودة حياتهم بسبب القلق الذي نشأ مع هذا الاكتشاف.

الصعوبة في إدراك هذه المشكلة أن الفكرة تبدو مناقضة للبديهة. فمن الطبيعي أن يظن الناس أن التكنولوجيا دائمًا تقدم الأفضل، وأن الكشف المبكر ينقذ الأرواح، وأن القيام بفحص أو إعطاء دواء أفضل من الانتظار. كما أن المجتمعات أصبحت أقل قدرة على تقبل عدم اليقين، وأقل استعدادًا للنظر إلى الألم والشيخوخة والمرض باعتبارها جزءًا من مسار الحياة لا يمكن إلغاؤه بالكامل.

في السعودية، ومع التحول الصحي الطموح الذي يعزز الوقاية ويستثمر في التقنية، تصبح هذه القضية أكثر أهمية. فالتوسع في الخدمات الصحية إنجاز كبير، لكنه قد يقود دون قصد إلى توسع في التدخل غير الضروري إذا لم تضبط ممارساته بمعايير علمية دقيقة. ومن هنا تأتي الحاجة إلى ثقافة توازن بين حرص الطبيب وبين الحكمة التي تقول إن عدم التدخل أحيانًا هو القرار الأكثر أمانًا ومهنية، وإلى وعي مجتمعي يدرك أن الطب الجيد لا يقاس بعدد الفحوصات، بل بقدرة النظام على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح، لمن يحتاجه فعلًا.

الإفراط في الطب يغير علاقتنا بالصحة نفسها، فيحولها من طمأنينة واعية إلى قلق دائم. وفي منظومة تسعى للجودة والاستدامة، يبقى السؤال الحقيقي: ليس كم فحصًا أجري، ولا كم علاجًا قدّم، بل كم قرارًا صحيحًا اتخذ في مصلحة الإنسان.