في بيت الثقافة بجازان، لا تُفتح الأبواب للضوء وحده، بل للمعنى أيضًا.. هناك، وفي ليلةٍ مختلفة عن سواها، اجتمع الحضور على مائدة اللغة العربية، لا بوصفها مادةً للدرس، بل روحًا نابضة بالحياة، قادرة على أن تُنصت وتُصغي وتبوح، كانت الأمسية أشبه بموعدٍ مع الجذور، حيث يعود الإنسان إلى لغته الأولى ليكتشف أنه لم يغادرها يومًا.

استضافة أحمد السيد عطيف، وشقراء مدخلي، لم تكن مجرد حضور أسماء، بل حضور رؤية، دار الحديث عن العربية بوصفها كائنًا حيًا يتنفس في الشعر، ويتجلّى في السرد، ويقاوم التآكل في زمن السرعة، لربما كانت الكلمات تُقال على عجل، لكنها تصل عميقة، كأنها تعرف طريقها إلى الوجدان قبل السمع، وإلى القلب قبل العقل.

ما ميّز هذه الليلة لم يكن ثراء الطرح فحسب، بل تلك العلاقة الحميمة التي نشأت بين ضيفي اللقاء والجمهور، لم يكن الحديث من منصةٍ إلى مقاعد، بل من روحٍ إلى روح، فالأسئلة لم تكن سطحية، والإجابات كانت أكثر عمقًا، فقد رصعت الجلسة بحوارات مفتوحة تُشبه اللغة نفسها: واسعة، مرنة، وممتلئة بالاحتمال.


ويُحسب لبيت الثقافة هذا الحضور الأنيق والتنظيم المتقن، حيث أُدارت محاوراللقاء، خلود عبدالله، الأمسية بسلاسة ووعي، في بيئةٍ تحتفي بالكلمة وتُجيد الإصغاء لها، فكان المكان على قدر الفكرة، والتنظيم شريكًا في جمال اللحظة ونجاحها.

انتهت الأمسية، لكن أثرها لم ينتهِ، بقيت العربية حاضرة في الذاكرة، أكثر قربًا، وأكثر دفئًا، خرج الحضور وهم يشعرون أن اللغة ليست ماضيًا نُحافظ عليه فقط، بل حياة نعيشها، وهوية نُجددها كلما آمنًا أن الكلمة الصادقة قادرة، دائمًا، على أن تجمعنا في ليلةٍ مميّزة كهذه.