وجاء إطلاق المقاهي الأدبية في السعودية بهدف جعل الثقافة والأدب جزءًا من الحياة اليومية، وتعزيز الحراك الثقافي وإثرائه، وتشجيع القراءة الواعية وتنمية الذائقة الفنية والأدبية لدى الجمهور، ونشر الأدب السعودي عبر دعم انتشار الكتاب والمؤلف السعودي محليًا وعالميًا، ودمج الفعاليات الأدبية في فضاءات المقاهي العامة، بحيث تكون هذه المقاهي جسرا بين الثقافة والمجتمع.
لكن الممارسة العملية لتلك المقاهي، يطرح كثيرا من الأسئلة على الأخص فيما يتعلق بنوعية الكتب المعروضة فيها، ومدى جاذبيتها للقارئ، والسبيل لتعزيزها، وكيف يمكن للمقاهي وللشريك الأدبي تقديم كتب جاذبة، وعن الأندية الأدبية التي أغلقت وتحولت إلى جمعيات، وهل يمكن تحويل كتبها إلى المقاهي الأدبية بحيث تعزز حضور الكتب الجاذبة للمقاهي؟
وتتباين آراء المهتمين والعاملين بالشأن الأدبي حيال كل هذه الأسئلة، فمنهم من يراها محركة مستجيبة للواقع، ومنهم من يرى أنها جنحت لجعل الكتب بمثابة الديكور دون اهتمام بالمحتوى، ومنهم من يذهب أبعد من ذلك.
استئناس الثقافة
يشير المهتم بالشأن الثقافي والأدبي في منطقة الجوف، الكاتب، الروائي عبدالرحمن الدرعان إلى أن «تجربة الشريك الأدبي انبثقت أساسا من فكرة محاولة استئناس الثقافة وتعميمها، وتخصيب الفضاء العام بما يرقى بالذائقة، وتحفيز المهتمين والمبدعين والذين لديهم إمكانية للإبداع كي يجدوا ضالتهم، وبهذا المعنى فإنه يمكن وصف الشريك الأدبي باعتباره مقهى يقدم القهوة ويستهدف مرتاديه على نحو خاص بما يثير فضولهم للقراءة، ووفقا لهذا الشرط فإن الذين يديرون هذه المقاهي سيتذرعون بأنهم لا يعملون في مكتبات عامة، علاوة على أنهم ينظرون للكتب المعروضة وكأنها ليست أكثر من ديكور».
ويضيف «لردم هذه الهوة فإن الحرص على تقديم نشاطات ثقافية نوعية سوف يسهم في تطوير هذه المقاهي».
ويتابع «غير أننا لن ننتظر منها أكثر مما لا يستطيعه القائمون عليها الذين يديرون مشروعاتهم بمنطق (السوق)».
ويواصل «الحل يتمثل في أن يكون لدى هؤلاء الشركاء أصدقاء متطوعون من المثقفين لرسم الخطط الموسمية للأنشطة، وتقييمها باستمرار، كي لا تتوقف تجربة الشريك الأدبي عند هذا الشكل النمطي الذي لم يعد جديدا ولم يعد جاذبا».
شراكات لملء الفراغ
يعول الدرعان على أن «التحول الذي طال الأندية الأدبية يمكن أن يحيلنا إلى عقد شراكات وتنسيق وتعاون من الشريك الأدبي لعل ذلك يسهم في ملء الفراغ الذي خلفته الأندية الأدبية».
ويحكم بأنه «من الصعب الحكم على جودة الكتب المعروضة نظرا لتفاوتها، غير أن الافتراض ممكن بالتأكيد، وعليه أؤكد أنه ثمة أكثر من سبب لتواضعها، فهي تستهدف فئة من الزبائن لا القراء، كما أنها لا تأبه لتأمين كتب نوعية باعتبار (الزبون) عابرا، وليس باحثا أو قارئا، وبالتالي فهي ربما تكون أكثر شبها بالمجلات والنشرات المعروضة في صالونات الحلاقة لا أكثر».
وينهي «الفعاليات الثقافية التي يقيمها الشريك الأدبي قد تسهم ــ بشكل ما ــ في مراجعة واقتراح العناوين التي تكون في مستوى أفضل مما هي عليه الآن».
منصات نابضة بالحياة
من جانبه، يؤكد الكاتب، الناقد المسرحي يحيى العلكمي أن «المقاهي الثقافية فضاء مفتوح للمعرفة والتفاعل، وهي لم تعد مجرد أماكن للجلوس العابر أو شرب القهوة، بل تحوّل عدد منها إلى منصات ثقافية نابضة بالحياة، تُعرف اليوم بـ«المقاهي الثقافية».
ويكمل «هذا التحول منح المقهى دورًا يتجاوز وظيفته التقليدية، ليصبح فضاءً يجمع بين المعرفة والحوار، ويعيد للثقافة حضورها اليومي في حياة الناس بعيدًا عن القوالب الرسمية المغلقة».
ويبين أن «المقاهي الثقافية قامت على فكرة بسيطة وعميقة في آنٍ واحد: تقريب الثقافة من الجمهور. فهي تفتح أبوابها للقراء والكتّاب والمفكرين والفنانين، وتتيح لهم مساحة حرة لتبادل الأفكار ومناقشة القضايا الفكرية والأدبية والفنية».
وعن الكتب في تلك المقاهي الثقافية، قال «وجود الكتب في هذه المقاهي، سواء عبر أرفف مفتوحة أو معارض مصغّرة أو جلسات توقيع، يمنح القارئ علاقة أكثر حميمية مع الكتاب، ويكسر الحاجز النفسي الذي قد يفرضه المكان الأكاديمي أو المكتبة الصامتة».
وأشار إلى أن «تنوع المناشط في المقاهي الثقافية ما بين أمسيات شعرية، وقراءات قصصية، وحوارات فكرية، وورش كتابة، إلى جانب مناقشات الكتب ونوادي القراءة يسهم في جذب شرائح مختلفة من المجتمع، ويخلق حالة من التفاعل الثقافي الحي، حيث لا يكون المتلقي مجرد مستمع، بل شريكًا في النقاش وصناعة الفكرة. كما أن هذه الأنشطة تتيح للمواهب الجديدة فرصة الظهور، وتمنح الأصوات الشابة منصة للتجريب والتعبير».
دعم صناعة الكتاب
يكمل العلكمي متناولا المقاهي الأدبية وضرورة أن تكون الكتب جاذبة للقارئ، موضحا «الأثر الأهم للمقاهي الثقافية يتمثل في دورها الاجتماعي؛ فهي تعزز ثقافة الحوار، وتشجع على الاختلاف الواعي، وتبني جسورًا بين الأجيال والاهتمامات المتعددة. كما تسهم في تنشيط الحركة الثقافية المحلية، وتدعم صناعة الكتاب من خلال الترويج للقراءة وربطها بأسلوب حياة يومي».
كتب غير مغرية
بدوره، يرى المهتم بالشأن الثقافي والأدبي، مدير عام السياحة والتراث الوطني في منطقة الجوف سابقا حسين بن علي الخليفة أن «رفوف الكتب في المقاهي لم تعد مغرية كثيرا، وذلك للتحول الرقمي، فقد أصبح بين أيدينا رفوف كتب إلكترونية، بل مكتبات متكاملة دون الحاجة للموجود على أرفف المقاهي إلا القلة القليلة».
وعن مساهمة الشريك الأدبي في تغذية المقاهي الأدبية بالكتب الجاذبة للقارئ قال «قد يكون وضع رف صدر حديثا، وقد يكون من الأهم استقطاب أدباء وكتاب للحديث حول كتاب يحمل قيمة أدبية ليكون النقاش أكثر جاذبية لمرتادي المقاهي الأدبية».
وعن مدى الاستفادة من الكتب التي كانت تطرح بالأندية الأدبية وحتى الصالونات التي أغلقت وتحولت إلى جمعيات، ذكر أن «دور الأندية أو الجمعيات الأدبية يختلف عن دور المقاهي، فدورها هو المصنع والأم التي تغذي المقاهي في تبني النشر للأدباء والمثقفين وإنشاء الجيل الجديد من خلال احتكاكهم ونقل المعرفة من جيل إلى جيل».
تدوير الفكر
يوضح مؤسس منتدى الثلاثاء الثقافي في القطيف جعفر الشايب، أن «التجمعات الأدبية والثقافية تسهم بشكل عام في تدوير الفكر والثقافة ونشرها بين قطاعات اجتماعية واسعة».
ويتابع «لعبت الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون والمنتديات الثقافية الأهلية دورا كبيرا في هذا المجال بحيث أصبحت مصدرا مهما لنشر الفكر والثقافة والفنون بين أفراد المجتمع، ومع التحولات الاجتماعية الكبيرة والتطورات التي رافقتها، برزت نماذج تفاعلية جديدة تستقطب جمهورا أوسع من المتابعين والمهتمين بالشأن الأدبي والثقافي، ومن بينها نموذج المقاهي الأدبية التي انتشرت في كل زاوية وشارع».
وواصل «تحول العمل الثقافي – ضمن هذا النموذج – من الحالة النخبوية إلى الجماهيرية، وانعكس ذلك بشكل طبيعي على نوعية الأطروحات المتداولة والإصدارات المقروءة، بحيث تركزت على الاهتمامات التي تشد الشباب ومرتادي هذه المقاهي الثقافية، وضعف فيها الطرح الفكري والثقافي المرّكز. وهو الحال كذلك بالنسبة للكتب المتداولة في هذه المقاهي حيث تنتشر فيها الأعمال الروائية وكتب تطوير الذات وقصص المغامرات، وغابت كتب المصادر المعرفية الأساسية أو تلك المتعلقة بالعلوم التخصصية كالفلسفة، والاجتماع، والتاريخ، وغيرها».
الحاجة لمراكز ثقافية
يشدد الشايب على أن «المقاهي الأدبية تأتي استجابة لتطور طبيعي في المجتمع وفي أنماط التلقي الثقافي لدى جيل الشباب، وهي – في الواقع – تؤدي دورا مهما في التناغم مع اهتمامات أبناء هذا الجيل وتوجهاته».
ويبين أن «المقاهي الثقافية لا تسد بالطبع الحاجة إلى وجود مراكز ثقافية وصوالين أدبية نوعية – رسمية وأهلية – تواصل مدّ الساحة بالعطاء الثقافي الراقي والإبداع الأدبي المتميز من أجل استمرارية تطوير الفكر والإبداع في المجتمع وتأصيل الحركة الفكرية فيه».
ويكمل «كما ينبغي أيضا فتح المجال أمام المقاهي الثقافية لطرح قضايا ومواضيع فكرية جادة، وتوجيه الحضور من الشباب للتفاعل مع هذه القضايا التي تسهم في تطوير التفكير النقدي، والمتابعة المستمرة للنتاج الفكري في العالم، وذلك يحتاج إلى وضع خطط عمل مرنة وفاعلة تحقق هذه الأهداف وتسد الفراغ القائم، وتشجع على الحوار والنقاش الفكري الناقد والبناء، وتوفير المادة المناسبة من الإصدارات في هذه المكتبات والصوالين».
ضعف التركيز على الجذب
أما عضو مجلس إدارة نادي الجوف الأدبي، مساعد مدير عام تعليم الجوف سابقا نايف الصلهام، فيشير إلى أن «الإشكالية ليست في الكتب المعروضة وبأنها فقدت جاذبيتها بل بالمتلقي».
ويتابع «فيما يتعلق بالكتب وكونها جاذبة أو غير جاذبة في المقاهي الأدبية فيمكننا القول إنه قد قلّ التركيز على الكتب الجاذبة، حيث فقدت كثير من الكتب جاذبيتها مع وسائل التواصل الاجتماعي التي استولت على شغف المتلقي وقتلت الكتاب».
ويواصل «وسائل التواصل الاجتماعي هي السبب الأول في العزوف عن الكتاب، السوشال ميديا بمحتواها الجيد والرديء استطاعت الاستيلاء على وعي المتلقي وشغفه، فهي أكثر جاذبية (الصورة) وأسرع في (الوقت) بإيصال المعلومة، ولكنها الأضعف في امتلاك المعرفة وتقديمها».
ويستطرد «ما نعيشه اليوم مولود (السوشال ميديا) ومفقود (الكتاب)، ولعل هذا أحد الأسباب في ضعف الوعي باختيار الكتب الجيدة في المقاهي الأدبية».
وعي جمعي
ردا على سؤال كيف يمكن للمقاهي وللشريك الأدبي تقديم كتب جاذبة للقارئ، يجيب الصلهام «المقاهي عبارة عن مكان، ودورها يرتبط بالوعي الجمعي، إذا تحقق الوعي وتفاعل المتلقي مع المادة الجيدة، وإذا توفر الحرص على تلقي المعرفة الإنسانية التي تسهم في بناء الإنسان والمجتمع قدمت المقاهي وغيرها مادة ثرية».
وتابع «الأندية الأدبية لم تكن يوما جاذبة رغم ما تبذل من جهود كبيرة حتى قبل الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، فقد كانت تعاني من استقطاب المثقف والمتلقي، حيث تطبع الكتب وتوزعها مجانا، ولا تجد الإقبال الجيد، وتقيم الندوات والفعاليات ولا تحظى إلا بحضور محدود جدا».
وأنهى «حضور الكتاب بشكل منافس للسوشال ميديا، ولإنارة المقاهي الأدبية وتميزها، يحتاج إلى الوعي الجمعي وهذا لا يتحقق إلا بدور التعليم والأسرة معززا بالإعلام الرسمي».
انتقادات تطال المقاهي الأدبية
ـ بعض من يديرها ينظر إلى الكتب المعروضة وكأنها مجرد ديكور
ـ يجب أن يتطور مفهوم القائمين عليها بحيث لا يديرونها بمنطق السوق
ـ يفترض أن تستعين بشركاء أصدقاء متطوعين من المثقفين لرسم الخطط الموسمية للأنشطة
ـ بعضها يؤدي دوره بشكل نمطي لم يعد جديدا ولم يعد جاذبا
ـ لا تأبه لنوعية الكتاب لأنها تتعامل مع القارئ كزبون عابر
ـ تتعامل مع الكتب كأنها مجلات معروضة في صالونات الحلاقة
الحلول ومزايا المقاهي الأدبية
ـ عقد شراكات وتنسيق وتعاون لملء الفراغ الذي خلفته الأندية الأدبية
ـ الاستفادة من الفعاليات الثقافية التي يقيمها الشريك الأدبي لمراجعة واقتراح عناوين أفضل للكتب
ـ مجرد تقريبها الثقافة من الجمهور يتحقق عبر منح القارئ علاقة أكثر حميمية مع الكتاب
ـ تكسر الحاجز النفسي الذي قد يفرضه المكان الأكاديمي أو المكتبة الصامتة
ـ ليس من الضرورة أن تكون الكتب جاذبة للقارئ بل يكفي تنشيطها للحركة الثقافية وترويجها للقراءة وربطها بأسلوب حياة يومي
ـ حولت الفعل الثقافي من الحالة النخبوية إلى الجماهيرية وانعكس ذلك بشكل طبيعي على نوعية الأطروحات المتداولة والإصدارات المقروءة.