شاب علاقة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ـ طيب الله ثراه ـ مع الإنجليز لغط كثير، وأخذ ورد، وكثير من الأقاويل التي جانبت الصواب وذهبت في اتجاهات عدة أغلبها كذب، وتم تداولها وتكرارها بشدة حتى بات البعض يعاملها لكثرة تداولها معاملة الحقيقة.

كان الملك المؤسس ماهرا للغاية في قراءة الأوضاع الدولية، دقيقا في النفاذ بين دهاليزها، ونجح في تجييرها لصالحه، فبنى دولة، وكانت له مواقفه كحاكم فذ من بريطانيا ومواقفها منه، والوثائق تؤكد أن بريطانيا لم تكن تريد يوما وجوده، لكن بحنكة السياسي، ورغما عن إرادتها نجح في بناء دولة وتوحيد أمة.

تنك اللحم

في عام 1343 كان بين السلطان عبدالعزيز وبريطانيا خلاف على الحدود بين سلطنة نجد وإمارة شرقي الأردن التي كانت بريطانيا منتدبة عليها، وكانت أيضا لدى سلطنة نجد مطالبات بسداد حكومة شرق الأردن منهوبات تم الاستيلاء عليها من التجار النجديين الذاهبين إلى سورية، ولم تشأ الإدارات الإقليمية البريطانية حسم النزاع ودياً، فأرسل السلطان عبدالعزيز قوة لإنهائه عسكرياً بعد فشل ما سُمِّي بمحادثات الكويت، وأرسلت القيادة البريطانية طائرات وعربات مدفعية قامت بقصف قوات السلطان عبدالعزيز والقبائل التي تصدت لها من بادية الشام دون تمييز بين من معهم ومن مع القوة النجدية، فتفرقت القوتان، وأَسَرت المدفعية البريطانية والعربية المتحالفة معها ثلاثين رجلاً من النجديين، ضُبِطت معهم صفائح حديد عبؤوها باللحم المقدد ليقتاتوا منه في السفر، هنالك كتبت الصحافة العربية أنهم اكتشفوا دليلاً قوياً على صلة السلطان عبدالعزيز ببريطانيا وهو أن «التنك» الذي استخدمه السعوديون لتخزين اللحم المجفف كان إنجليزي الصنع!

الطائرات والعربات الإنجليزية قذفتهم، والقوات الإنجليزية أسرتهم، والمحللون العرب لا يرون في المشهد سوى تنك اللحم الذي حفظ فيها هؤلاء الجنود اللحم المجفف بشكل بدائي.

ليبدأ من هناك نسيج قصة علاقة عبدالعزيز لبريطانيا.

هذه القصة تجد في تاريخ السعودية وحاضرها مثلها كثير، فالسعودية يَرَى القذاةَ في عينها دائما من لا يرى الوتد في عين سواها.

لكن علاقة السلطان عبدالعزيز -الملك لاحقا- ببريطانيا أصبحت محل نسج الأكاذيب التي صار كثير منها لشدة تداوله يعامل معاملة الحقيقة لكثرة تدويره وضَعْفِ انتشار الردود عليه، بل وصل الأمر إلى بعض النخب الوطنية فأصبحت دون نقاش تُسَلِّم بأن الملك عبدالعزيز بطريقة ما أو في مرحلة ما كان صنيعة لبريطانيا، حتى أنني قرأت نقاشاً في تويتر بين اثنين من المشتغلين بالتاريخ يقول الأول: ولكن الملك عبدالعزيز كان صنيعة لبريطانيا، فيجيب الآخر: نعم ولكنه كان صنيعة لها في مرحلة متقدمة!.

فإذا كانت هذه حال النُّخب الوطنية المشتغلة بالتاريخ، فكيف إذاً حال خصوم دولتنا ودعوتنا والإعلام المعادي لنا والمتأثرين به؟!.

وثائق إنجليزية

القارئ المنصف والقارئ غير المنصف، كلاهما على حد سواء، للوثائق الإنجليزية والرسائل المتبادلة بين الملك عبدالعزيز وممثلي بريطانيا، وغيرها من الوثائق يتأكد له أن بريطانيا لم تكن يوماً من الدهر تريد وجود السلطان عبدالعزيز أو الإبقاء عليه أو دعمه، والفضل الأوحد على عبدالعزيز هو لله وحده الذي هيأ له الظروف الدولية كلها لتكون إما في صالحه، واستطاع هو أن يقرأها بشكل دقيق فينفذ بين دهاليزها إلى ما يُريد وأحياناً كثيرة كانت تلك الظروف تتقدم به لينال ما لم يكن في تخطيطه مطلقا أو ما لم يكن في تخطيطه القريب.

وكذلك الفضل بعد الله تعالى لشعب عبدالعزيز الذي آمن بقضيته ووقف معه وبَذَلَ من أجل تحقيق حلم هذه الوحدة كثيرا من دمائه. أما أن يكون صنيعة لأحد، بريطانيا أو غيرها فهذا حديث لا يصدقه التاريخ ولا المنطق التاريخي.وقد كتبت لألخص مواقف هذا الحاكم الفذ من بريطانيا ومواقفها منه لكل شاب تتعمد وسائل الإعلام المعادية أو المثقفون المنهزمون أو الأعداء المغرضون العبثَ بعواطفه وتشويه تاريخه بين يديه تمهيداً للفتنة وسعياً لإعادة الفرقة التي من أدواتها تزهيد الأجيال بأمجادها وحضارتها ورموز عزها.

وقد اعتمدتُ فيها على:

- الوثائق المجموعة في موسوعة دليل الخليج التي جمعها: ج، لوريمر.

- كتاب تاريخ نجد الحديث لأمين الريحاني والذي استقى كثيراً من معلوماته من الملك عبدالعزيز ومن الإنجليز أنفسهم.

- كتاب السعوديون والحل الإسلامي لجلال كشك، وهو بحق أفضل ما كُتِب عن الملك عبدالعزيز ووثق علاقاته الخارجية لاسيما بالإنجليز من المصادر الأصلية، وأجاد الترتيب والتحليل.

وأعلم أن دارة الملك عبدالعزيز قد أعدت موسوعة فريدة بجميع الوثائق الخاصة بالملك عبدالعزيز لكنني لم أرجع إليها، لأمرين، أولهما أنني لا أملكها، والآخر: أن ما أكتبه ليس بحثا، وإنما هو مقالة لتقريب المعلومة وتيسير الحصول عليها.

وسوف ألخص علاقات الملك عبدالعزيز ببريطانيا حتى نهاية الحرب الكونية الأولى، وآمل أن يُسعف الوقت لتناول لاحق يلخص علاقاته بها من نهاية الحرب حتى نهاية فتنة ابن رفادة.

البداية

أواخر عام 1321 للهجرة كان الإمام عبدالعزيزـ رحمه الله ـ يبسط نفوذه من الرياض التي دخلها قبل عامين فقط إلى أقاليم الوشم وسدير والمحمل وما حولها وعدد من بلدات القصيم بل بسط نفوذه على القصيم كله بعد ذلك بقليل، وكذلك جاء هذا العام وهو يبسط نفوذه على منطقة العرض وعالية نجد حتى مشارف الحجاز وإلى الجنوب دانت له كل أقاليم جنوب الرياض من الخرج وحتى وادي الدواسر، على امتداد ما يزيد على 600 كيلو متر، أي أنه في ذلك التاريخ كان بلا منازع رجل نجد الأقوى رغم أن وجوده فيها لم يتجاوز الثلاث سنوات، هذا العام هو الموافق لعام 1903 للميلاد حيث تعرف البريطانيون لأول مرة على هذا القائد، وذلك عن طريق ناصحٍ لهم في الأحساء تواصل مع البريطانيين في البحرين وأخبرهم بعبدالعزيز وتوقعاته الخاصة له بأنه سيسيطر على نجد ويسترد الأحساء، هذه المعلومات حفزت الحكومة البريطانية في الهند التي كانت المنطقة تقع ضمن اختصاصها إلى اقتراح علاقة مع ابن سعود، إلا أن الخارجية البريطانية في لندن وهي صاحبة القرار الفصل ظلت 10 أعوام بعد هذا التاريخ وهي ممتنعة من أي إجراء كهذا كي لا تزيد توتر العلاقات بينها وبين الدولة العثمانية الداعمة لابن رشيد، ولاعتقادها أن ابن سعود لن يستطيع مقاومة العثمانيين، وأنه سرعان ما سيسقط أو يُحَجَّم وتعود السلطة في نجد لابن رشيد، ولذلك لم تر بريطانيا أي فائدة من أي تواصل مع عبدالعزيز لما سيُشَكِّله من المتاعب للندن في علاقاتها ومقايضاتها مع الباب العالي. إلا أن أخبار الشيخ مبارك بن صباح التي كان يزود بها المعتمد البريطاني عن وسط الجزيرة جعلت حكومة الاحتلال البريطاني في الهند بعد انتصار ابن سعود في موقعة فيضة السِّر تُجَدِّد الاقتراح للخارجية البريطانية بالتواصل مع ابن سعود لكن الحكومة في لندن ظلت عند رأيها في مع الاستمرار في المراقبة، وأكثر من ذلك تقديم النصيحة لابن صباح بعدم تقديم أي دعم لابن سعود وترك نجد تصفي حساباتها بنفسها.

المواجهة الأولى مع العثمانيين

تعامل بريطانيا بشكل لا مبالي مع عبدالعزيز بعد انتصاره في فيضة السر قابله مزيدٌ من الاهتمام لدى العثمانيين حيث وصلت الأنباء بتجريد السلطان عبدالحميد قوات من البصرة والشام ومصر لتجتمع في المدينة ثم منها إلى القصيم لدعم ابن رشيد والقضاء على ابن سعود، ويحمل قادة هؤلاء العساكر معهم الإرادة السلطانية بإحضار عبدالعزيز بن سعود إلى إسطنبول حياً أو ميتا.

وأَعْتَقِدُ أن ابن سعود كان يعلم أن السلطان عبدالحميد الذي يعاني من تهديدات كبيرة في البلقان والقرم وغيرها لم يكن ليفكر في إلقاء هذا الثقل في الجزيرة العربية دون رأي الحليف الألماني الذي كان يخطط للاستيلاء عن طريق العثمانيين على النفوذ الكامل في العراق والشام ومزاحمة الإنجليز على الخليج، وبهذا سيكون عبدالعزيز أمام قوتين عظميين ليس لديه القدرة التي تُكافئهما وهما القوة العثمانية والألمانية، وكانت ذاكرة إسقاط الدولتين السعوديتين الأُوليين على أيدي العثمانيين ماثلة بالتأكيد أمامه، وهو الآن على وشك الدخول في أول معركة مباشرة مع الجيش العثماني والعتاد الألماني، لذلك كان الحل هو ضرب ألمانيا وحليفتها ببريطانيا، وذلك بطلبه دعم بريطانيا عن طريق مبارك بن صباح مُعَرُّضَاً بأنه سبق وأن التقى عند مبارك سنة 1902 بمبعوثَي روسيا وفرنسا وأن بإمكانه إذا لم توافق بريطانيا التواصل مع أيهما.

بادرت حكومة بريطانيا في الهند حين وصلتها رسالة الشيخ مبارك فوراً إلى توجيه النصيحة إلى الحكومة في لندن بالمبادرة لدعم عبدالعزيز قبل أن يسارع إلى طلبها من الروس، إلَّا أن هذا الطُعم الذي رماه عبدالعزيز إلى البريطانيين لم ينفع ولم يشاؤوا الاستعجال بالدخول في صراع مع العثمانيين والألمان من أجل بقعة في وسط الجزيرة ليس لها أي تأثير، وليس من المُرَجَّح أن تنتصر على خصمها العثماني الذي يُعد حقا أضعف من بريطانيا لكنه كذلك أقوى من ابن سعود بمراحل.

أمرٌ آخر مهم فطنت إليه بريطانيا وهو الجانب العقدي، فابن سعود ليس مجرد طالب سلطة كغيره من الحكام، وإنما صاحب عقيدة يرون أنها تُشَكِّل خطراً على وجود بريطانيا لو انتشرت لدى شعوب مستعمراتها، ومن هذا المنطلق تكلم وزير شؤون الهند في لندن قائلاً في رسالة له لوزير خارجيتهم بتاريخ 24 مايو 1904 «إن هدف ابن سعود هو بعث الملكية الوهابية في وسط الجزيرة وهو أمر يثير نتائج خطيرة ومن المحتمل أن يهدد سلطتنا في الكويت، ولذا نؤيد فكرة التركيز على حماية أراضي الكويت وانتظار التطورات».

وضمن محاولة عبدالعزيز التزود بالسلاح لمواجهة هذه الأزمة أرسل إلى الكويت مالاً يطلب به سلاحاً يتقوى به، إلاَّ أن المال أُعيد إليه وتم الاعتذار عن بيع السلاح للرياض بغير العذر الحقيقي الذي هو حيلولة بريطانيا دون وصول السلاح إلى ابن سعود.

ظلت طوابير العساكر العثمانية وآلياتها تتدفق على ابن رشيد من عام 1322 وحتى 1324 ودارت بينهم وبين عبدالعزيز عدد من المعارك الصغيرة والكبيرة، كلها ذاقت فيها الجيوش العثمانية الوبال، المواقع الأمهات منها: البكيرية التي لم يُحسم النصر فيها لأحد لكن الخسارة في الأرواح كانت من الطرفين، وكان أكثرها في الجنود العثمانية، ثم قصر ابن عقيل - وتسمى أيضا الشنانة والرمة - وقد خسر فيها الترك أيضا خسارة بالغة، وروضة مهنا التي كانت خسارتهم فيها أكبر فداحة، تخللت تلك المعارك وأعقبتها مفاوضات طويلة بين ابن سعود والعثمانيين انتهت بالتوافق على اعتراف عبدالعزيز للسلطان العثماني بالخلافة واعترافه له بالإمارة على نجد، إلا أن هذا التقدم العظيم لابن سعود لم يغيِّر في موقف بريطانيا منه سوى سماحها للكويت بالإتجار بالسلاح معه بعد أن كانت بريطانيا قد منعتها.

للعودة للحلقة (1)

للعودة للحلقة (2)