مجاهد عبدالمتعالي

من حق كل أسرة أن تطالب الدولة بما يوفر الظروف المناسبة لتنمية ملكات أفرادها وقدراتهم من الذكور والإناث على حد سواء، دون مزايدة أو تحكم فئة اجتماعية على أخرى فيما تراه مناسبا أو غير مناسب، فمن حق إحدى الأسر السعودية أن تفاخر بابنها لأنه أحد الفائزين بمسابقة أجمل صوت في أحد البرامج العربية الغنائية، وبالمقابل من حق أسرة أخرى أن تفاخر بابنتها أن كانت ضمن تصفيات أفضل شاعر عربي، وثالثة ابنها مخترع علاج طبي، ورابعة ابنتها حصلت على ميدالية ذهبية في ألعاب أولمبية عالمية.... إلخ، وما يفتعله (السروريون من بقايا الصحوة) والمتعاطفون معهم من انتقاص لهذا أو ذاك ستذوب مع الوقت، لنجد أن أكثر الفئات الاجتماعية انغلاقا، كانت تمنع المرأة من حضور حفل في نفس مدينتها، وهي أحد أبطاله ليحضر مكانها في استلام الجائزة أحد (محارمها) بحجة أن (المرأة لا تخرج إلا لضرورة، واستلام الجائزة ليس من الضرورات)، ليتطور الوضع فتحضر هي بنقابها على المنصة وتستلم جائزتها بنفسها، ثم يتطور الوضع أكثر فتسافر من مدينة إلى مدينة أخرى لتستلم الجائزة بنفسها، ثم يتطور الوضع فتسافر من دولتها إلى دولة عربية أخرى فتستلم جائزتها بنفسها وهي بنقابها، ثم يتطور الوضع أكثر فتسافر من دولتها إلى دولة غير إسلامية فتستلم جائزتها وتكتفي بصورتها داخل صالة المطار وهي عائدة بالنقاب والجائزة، وهذا المشوار الطويل من (المرأة لا تخرج إلا لضرورة) إلى (ما دامت تراعي النقاب في لقطات الكاميرا، فلا بأس أن تطوف العالم وتستلم بفخر جائزة يمنحها لها الكفار يداً بيد)، يعطي مؤشرا على التغير الاجتماعي الذي اكتسح أكثر الأسر انغلاقا دون شعور منهم بالتحولات الحاصلة فيهم وبهم. قبل بضع سنوات كان يربكنا أن يوجد لاعب كرة يتميز بتسريحة شعر مختلفة، وبعدها بسنوات لم يعد يربكنا كل الوشوم التي نراها على جسد اللاعب، والسبب في ذلك مزاج التعددية الذي اصطبغ به المجتمع والقبول بالآخر، وهذا يعطينا مؤشرا على أن التعددية والتسامح من قيم (المحافظة)، والشمولية والرأي الأوحد من ظواهر (الانغلاق). يتعرى الفرق الأكبر بين المحافظة والانغلاق في ظواهر السلوك لدى الأسرة الصغيرة (أب وأم وأبناؤهما)، فالأسرة المحافظة تقبل التعددية في اختلاف المواهب والملكات لدى أبنائها، فأحد الأبناء طبيب أو طبيبة والآخر خريج أو خريجة معهد الفنون، والثالث يمارس أو تمارس العمل الحر، وتعطي الأسرة المحافظة احترامها لكل أبنائها، ذكورا وإناثا دون تفريق، مما (يحافظ) على تماسك هذه الأسرة (المحافظة) أكثر من الأسرة (المنغلقة) التي يجب أن يتجه جميع أفراد الأسرة إلى تخصصات محددة سلفا مع التفريق بين الذكر والأنثى، تفرقة تصب في صالح الذكور على حساب الإناث، فيلبسون بطريقة واحدة ويحملون لونا وقاموسا وجدانيا واحدا، لترى (الاختلاف الطبيعي)، وهو أكيد في أي وجود بشري، وقد أصبح سرّاً من الأسرار الخاصة بكل فرد من أفراد (الأسرة المنغلقة)، فالابن الأول عديم الشخصية أصبح طبيبا إرضاء لوالده فقط، ولهذا يفاجئك بنصائح شعبية عن فوائد الحبة السوداء، رغم تخصصه الدقيق، والابنة تكتب الخواطر الأدبية المجنحة وتقرأ في روايات عالمية بعيدا عن أعين أسرتها خوف (تهمة التغريب)، والثالث يعمل أكاديميا في الجامعة إرضاء لوالده أيضا، وعازف عن الزواج كقرار يتيم استطاع أن يعبر فيه عن نفسه بكلمة (لا)، وهكذا بقية أفراد الأسرة (المنغلقة) المتلونين بين ظاهر وباطن، لتعيش الأسر المنغلقة (عقدة التكاذب) في كل اجتماع لها، ليصبح الصديق البعيد أكثر قربا للأخ من أخيه، والصديقة البعيدة أكثر قربا للأخت من أختها داخل هذه الأسرة (المنغلقة)، لنرى أفراد الأسر المحافظة أكثر قربا من بعضهم، بينما الأسر المنغلقة يلتزمون بالتواصل فيما بينهم كواجب وقتي (ثقيل) يمضونه بالتكاذب فيما بينهم، بينما الأسرة المحافظة تعيش تناغما وتسامحا يجعل اجتماعاتها للسعادة والفرح الطبيعي، بدون جلسات المحاكمة البطريركية التي يعيشها أفراد الأسر المنغلقة التي تشجع التحسس والتجسس فيما بين أفرادها كنوع من الضبط القسري، فالنميمة في قاموس الأسرة المنغلقة خلق رفيع غير مستنكر داخل دائرتها البطريركية، بخلاف الأسرة المحافظة التي تراه كسرا لأهم صفاتها النبيلة داخل المنزل، وهي (الشفافية والثقة المتبادلة واحترام استقلالية الآخر). (المحافظة) ليست شعارا أبويا قمعيا متسلطا، بل تراث إنساني مشترك يختلف في سماته ما بين الأسرة اليابانية والأسرة البريطانية، إنه ليس اختلافا في النوع، بل اختلاف في الدرجة فقط، أما الانغلاق فيحرص على أن يكون اختلافه (بلون فاقع ومركزي وأبوي بتزمت)، فالأسرة المحافظة ليست متزمتة، بينما المنغلقة تسمي تزمتها محافظة، والتزمت نتيجة طبيعية لتربية (خائفة وقاسية) لا تعرف التسامح بقدر ما تعاقب دائما بقسوة، وحجتها مع كل عقوبة (إيش يقول عنَّا العالم)، مما يورث الخوف المبالغ فيه من المحيط الاجتماعي داخل الأسر المنغلقة، لتعيد إنتاج نفسها جيلا إثر جيل، ليصبح الانغلاق كوميديا سوداء في المحافل العامة، يتحجج المنغلق بالخصوصية كوهم للتميز، فيراها العقلاء خصوصية المعاق لا خصوصية المؤهل لسباق الحضارة الإنسانية المشتركة في اكتشاف طبي يشفي من مرض، أو اختراع تقني ييسر حياة صعبة، أو إبداع فني يزيد في بهجة الحياة، وما عدا ذلك وَهْماً يشبه وَهْمَ أكثر من مليار إنسان في بِرْكات نهر الغانج، والوهم الجماعي لا يعود وهماً، بل حقيقة نقبلها كتنوع إنساني ما لم تعتدِ على الآخرين بفرضه، أما المنطق المادي التجريبي فلا يتجاهله سوى (المجنون)، وعليه قامت الحضارات المختلفة مهما زينته بزخارف أوهامها.