أحمد التيهاني

معرفة مكامن الخلل في أدبيات التيارات المعاصرة دون نقدها خطأ جسيم؛ لأن عدم النقد شكل من أشكال التخلي وعدم المبالاة بما قد يفضي إليه الخلل من مشكلات كبرى على المستويين: الوطني/ الأمني، والاجتماعي، فضلا عن أن النقد نوع من الترشيد، ودعوة مجانية إلى تصحيح المسارات بما يجعل التيار الفكري – أي تيار – إيجابيا ودافعا إلى الأمام، وخادما لمصالح الوطن وأهله، عوضا عن أن يكون سلبيا قامعا، يشل حركة العقول، ويقف دون أسباب التقدم، ويكرس الاستبداد بنوعيه: الفكري الذي يفرض الرأي الأوحد فرضا، والمادي الذي يحرض أتباع التيار على معاقبة المخالفين جسديا أو معنويا عقوباتٍ تصل إلى القتل وهو أعلاها، أو قطع الأرزاق، والإقصاء، وتشويه السمعة، وإلصاق التهم، وهي أدنى من التصفيات الجسدية التي شهدت بلدانٌ عربية وإسلامية –عبر العقود الثلاثة الماضية- أمثله دموية مؤلمة لها.

المعرفة بأسباب المشكلات الفكرية المعاصرة، تعود إلى مصدرين: أحدهما؛ القراءة العميقة في الموضوع مدار البحث والتفكير، وربط الخطاب بالنتائج، والأدبيات بالأفعال، والآخر؛ التجربة الحية والمشاهدات اليومية، فضلا عن الحوارات الهامشية في المجالس وعبر وسائل التواصل. معرفتي بما أكتب عنه في هذا المقال عائدة إلى المصدرين المعرفيين كليهما، فأنا – كما أزعم – قارئ في أدبيات التيارات المختلفة، ومتتلمذ على أيدي بعض أقطابها، وراصد لصراعاتها، وما آلت إليه بعض هذه الأدبيات من نتائج كارثية نعرفها بوصفها نتائج ونغفل أو نتغافل عن أسبابها.

وسواء أكانت هذه التيارات عفوية الوجود؛ أي أنها وُجدت نتيجة توافقات غير مخططة في الأفكار، أم كانت تيارات منظمة لها أجنداتها وقادتها ومنظروها وموجهوها، فإن المصدرين ثابتان، وعلى الرغم من وجودهما، فإنني قد أكون مخطئا في منهج التحليل وفي بعض الاستنتاجات، وحسبي الاجتهاد؛ ولذا فإن حق الاختلاف مع مضامين الفقرات الآتية من المقال، حقٌّ أصيل؛ ذلك أنني لا أعرض نتائج تجربة علمية معملية، وإنما أعرض نتائج تفكير عميق مبني على معطيات معرفية.

الكلام –هنا– عن بعض مظاهر الاستبداد الذي تمارسه التيارات المنظّمة مع أتباعها، ومع المختلفين مع منهجها تنظيرا وتطبيقا، وهي مظاهر خفيّة في ذاتها مع الأتباع، إلا أن آثارها ظاهرة، وأبرزها استمرار عدد من المنتمين إليها في التبعيّة والعمل وإظهار التعاطف في العلن، على الرغم من تراجعهم عن أفكارهم المستمدة من أدبيات تلك الجماعات، غير أنّهم يجبنون عن التصريح بالتراجع.

عدم الجرأة على إعلان التراجعات، وعلى إعلان الانشقاق الفكريّ عن فكر التنظيمات السياسية المؤدلجة، يعني أن هذه التيارات أو التنظيمات أو الجماعات – بغض النظر عن المصطلح - تمارس شكلا من أشكال الاستبداد ضد الأفراد الذين يتبعونها، ويعني أيضا أن نتائج التراجع العلني وخيمة ومؤلمة لهؤلاء الأفراد، مما يجعلهم يختارون التراجع السري، حتى أنهم قد لا يبوحون به إلا أمام أنفسهم فقط!

هذا الاستبداد، هو ما يفسّر انقسامات هذه التنظيمات في حال إقدام أي عضو مؤثّر على القول بما يخالف الأسس النظريّة التي شكلت أدبيات التنظيم، وكُرّست حتى باتت عقائد، أو في حال إقدام أي عضو على استحداث صياغة جديدة للمفاهيم الراسخة في أذهان الأتباع، تلك المفاهيم التي يحرص القادة على غرسها في أذهان التابعين غرسًا قسريا؛ لأنها تحقق الأهداف الكبرى، ومن المعلوم أن هؤلاء القادة يتخفون دائما تحت أغطية وصْفية تحيل إلى اشتغالهم بالمعرفة والعلم والإرشاد، مثل: مفكر، أو باحث، أو داعية، وبالتأسيس على هذا، فإنهم يعرفون الأفكار التي تخدم طموحات التنظيم، وتحقق انتشاره، وتيسر طاعة أتباعه انقيادًا واقتناعًا، ولذا يركزون عليها، ويقدّمونها على غيرها، ويفرضونها، آخذين بعين الاعتبار اتساقها مع الإستراتيجيات الكبيرة، وخدمتها لها، وعدم خروجها عن النسق التنظيمي العام.

وعليه، فإنه في حال الفشل في استمرار انقياد أحد الأفراد أو اقتناعه، أو خروجه على تعاليم التنظيم بفعل فردي يكسر النسق المفروض، أو اختلافه –علنا- مع أحد قادته؛ يحدث الهجوم عليه، ويتم تجهيله، أو تشويهه، باتهامه بأنه صاحب ابتداع، أو هادف إلى أطماع، ويصل الأمر إلى الاتهامات العقدية، وهذه الأفعال العقابية مؤلمة جدا؛ لأنها قد تفضي إلى تدمير حياة الفرد الذي حاول أن يعود فردًا مستقلا كما خلقه الله، وكما أراده حين دعاه إلى التبصّر والتفكير.

أما في حال كون العضو الذي فكر خارج الصندوق مؤثّرا ومتمكنا من الإقناع والاستتباع، فإن إقدامه على استحداث صياغة جديدة للمفاهيم التي أشاعها قادة التنظيم، سيؤدي إلى التخلي عنه أولا، ثم مهاجمته ثانيا، مما يحدث الانقسامات بين التنظيمات ذات المرجعية الإيديولوجية الواحدة. لتأييد القول أعلاه، يتحتّم الاستشهاد بأنموذج يسير، وهو ممثل لما شهده تاريخ هذه التنظيمات غير مرة، ومن ذلك ما أفضى إليه بيان: «خطاب التعايش» المعنون بـ«على أي أساس نتعايش؟»، والمنشور سنة 2002، من انقسامٍ داخل تنظيم واحد، أو تيار واحد. والمتتبعون لتاريخ التنظيمات يعرفون كيف مارس معارضو البيان، من قادة التنظيم نفسه، أو من منظري التيار نفسه، أنواعًا مختلفة من الهجوم وصلت إلى التنديد والتهديد والوعيد والاتهام بأخطاء عقدية كبيرة، حتى اضطر من أصدر البيان إلى إصدار «بيان توضيحي»، وهو في سياقه الزمني، وفي لغته الاعتذارية، وفي مضامينه، يشبه التراجع، وما كان ذاك البيان التوضيحي ليكون، إلا لأن قوة الضغط على كاتب: «على أي أساس نتعايش؟»، كانت هائلة إلى الحد الذي جعله يتظاهر بالتراجع، وإن لم يتراجع في الواقع، والدليل على ذلك استمرار الانقسام الذي تطور إلى خلق أجنحة مسلحة مارست الإرهاب في كلّ الاتجاهات، وبأبشع الأساليب. أزعم أن مثل هذا الحدث، وما تلاه من تداعيات، أدلة كافية على الاستبداد المقنّع الذي تمارسه هذه الجماعات على أفرادها، إلى الحد الذي يجعل بعض هؤلاء التابعين غير قادر على الحياة والتواصل خارج التنظيم، مما يجبره على الإحجام عن التفكير خارج القفص المحدد.

هذا الحدث وأمثاله، تفسر استمرار أتباعٍ كثيرين في إظهار التعاطف مع فكر التيار الذي ينسبون إليه، أو مع إستراتيجيات التنظيم الذي يعملون له ومعه، على الرغم من أنهم - في قرارة أنفسهم- قد كفروا بها، ويتمنون الفكاك منها، لكن الخوف المفضي إلى العجز والضعف وانعدام الحيلة، يحول دون حريتهم؛ الخوف على ضياع بعض الامتيازات المادية والوظيفية المتحققة نتيجة الانتماء، والخوف من أن يجد الباحث عن الاستقلال نفسه وحيدا في مواجهة الحياة، وهو الذي اعتاد وقوف التنظيم معه في مناشطه ومكارهه، والخوف من الاتهامات العقدية المهلكة، وهي سلاح فتّاك لا يتردد القادة في استخدامه، والخوف من تشويه السمعة، ولا يكون هذا الخوف كله، إلا في وجود استبداد حقيقي.