مجاهد عبدالمتعالي

هل الدين متعال إلى درجة تجعله في مرتبة تساوي الله جل جلاله؟ قد يكون السؤال غريبا وغير مفهوم لأول وهلة، لكن لنتأمل هذه العبارة «الإسلام أعطى المسلمين حرية التفكير، والإسلام أعطاهم حرية الاختراع، والإسلام أعطاهم القدرة على الاكتشاف، والإسلام أعطاهم القدرة على التنظيم»... إلخ من عبارات ينسبها رجال الدين الإسلامي إلى الإسلام، كما يفعل ذلك رجال الدين المسيحي مع المسيحية في نسبة كل ما هو من شؤون عمارة الأرض وإقامة الحياة المدنية، وكما يفعل ذلك كل رجال الدين التقليديين في كل ملة.

الحقيقة أن الله «أعطى» البشرية، كل البشرية، العقل الذي يجعلها تفكر وتخترع وتكتشف وتنظم منذ أيام حكومات الصين وبابل واليونان قبل الميلاد، وصولا إلى زمننا هذا مع «الحكومة الإلكترونية»، بينما الأديان كانت المعنى الذي يستطيع أن يملأ به الإنسان روحه في مواجهة «سؤال الموت» خلال تمتع أحاسيسه بهذه الإمكانات البشرية على هذه الأرض.

الإشكال يظهر عندما يحاول رجل الدين أن يكون رسولا لكل العلوم النظرية والتطبيقية، فحتى الفلسفة انسحبت إلى مجالات لغوية اشتقاقية باتجاه نحت «المفاهيم» مع ضربات إبداعية هنا وهناك، تلتمع مع الفيلسوف عند استقرائه العميق تاريخ فلسفة العلم، بينما رجل الدين ما زال مصرا على شمولية مفاهيمه الدينية كل مجالات الحياة، بينما فيروس «كورونا» مشكورا أوضح الإمكانات التي يستطيعها رجال الدين تجاه الأوبئة، فإما يستغلونها في إنتاج خطاب تهييجي كقولهم: «كورونا جزاء على المعاصي والموبقات»، أو تسكيني كقولهم: «كورونا كفارة عن الذنوب وطهور»، أو يضطرون تحت ضغط الواقع «العلمي» الذي تعيشه الحضارة الإنسانية إلى العودة لمناطقهم المحدودة في مسائل العبادات (كيف نصلي ونعتمر ونحج... إلخ خلال أزمة كورونا)، وحتى هذه المسألة تبقى بين طريقتين: الأولى لها علاقة بالنص دون ارتباط بالعقل، والثانية عبادات ضابطها «العقل الحديث»، فإما مثلا صلوا صلاة جماعة متراصين ويحميكم الله، وإما صلوا وفق المحاذير والضوابط التي يقررها العلم الحديث.

نكرر الاستشهاد بقضية الفرق بين الطهارة والنظافة، لأنها توضح الفرق الجذري بين القضايا الدينية والدنيوية، فمن يربط بين الطهارة والنظافة، وأن الدين شامل لكل المجالات، فسيرتطم بأن النظافة قضية حسية يمكن توفيرها بتعقيم الجروح بالكحول، بينما الكحول بالمعنى الشرعي «نجاسة»، ويرتطم عند انعدام الماء باضطراره ليتطهر بأن يتيمم بالتراب، والتراب وفق المعنى الطبي ملىء بالميكروبات والجراثيم، ولا يعد من وسائل النظافة، وهنا يتجلى الفرق بين معطيات الدين ومعطيات العلم.

هذا التفريق يؤكد أن العقل البشري منحة من الله لكل البشرية، وليس منحة من الرسل للبشرية، فلولا العقل ما عرفت البشرية رسلا ولا وحيا ولا تكليفا... إلخ، ولهذا فمن يقول: منحنا الدين كذا وكذا وكذا، مما هو من متطلبات عمارة الأرض وتنظيمها، فهو ينسب للأديان ما ليس لها، فالأديان معنى وجودي لنا في هذه الحياة مع كل ما تبنيه البشرية، ويختلف المعنى وفق المذهب والملة، فالمعنى عند البروتستانتي داخل كنيسته يختلف عن المعنى عند الكاثوليكي داخل كنيسته الأخرى التي تراها تختلف في بعض الأيقونات التي قد ترفع بعض القديسين منزلة لا تقر بها المذاهب الأخرى في المسيحية.

وهكذا نجد في الإسلام مذاهب ترفع من مقام بعض الصحابة ومذاهب تخفضهم، ومذاهب تعلي من شأن بعض أهل البيت ومذاهب تجعلهم في مقام عموم الصحابة، وكلها خلافات ذات بعد يقرأ في إطار «التاريخ السياسي للمذاهب والفرق»، فهذا الإطار عند فهمه بوعي «تاريخي» غير أسطوري، فإنه يهدئ من كيمياء العقيدة التي تتخمر سياسيا فتظهر اجتماعيا على شكل «داعش» و«الحشد الشعبي»، فكأنما استعدنا التاريخ جذعا غير مدركين «مهزلة العقل البشري» التي يعيشها هؤلاء وهم يحملون «أسلحة أمريكية وروسية ويركبون سيارات يابانية، ويتواصلون بأجهزة جوال نشأت تطبيقاتها في وادي السيليكون»، لنستعيد تماما الفرق الذي أشار إليه أحد الكتب بعنوان «النباهة والاستحمار».