بندر الشهري

يعد التخطيط الإستراتيجي أول العناصر الواجب توفرها لتحقيق النجاح، وأبرز متطلبات العمل المؤسسي في هذا العصر الذي تعددت فيه الاحتياجات وتشعبت الوسائل. فهو يعنى بدراسة المصادر المتوفرة والإمكانات المتاحة وتحديد الغايات وأنسب السبل لإنجاز الأهداف، بأجود الأساليب، وأقصر الطرق وأقلها تكلفة.

وفي خضم ما يشهده العالم المعاصر من تعقيدات في أساليب الحياة، وزيادة في المخترعات والاكتشافات، وارتفاع سقف الطموحات والرغبات، وارتفاع وتيرة المساعي الرامية لتحقيق النهضة والتطور، فقد تزايدت الحاجة إلى إيجاد أعداد كافية من الإستراتيجيين القادرين على المساهمة في ترجمة الخطط الرامية إلى رفع مستوى معيشة المجتمعات وتحقيق رفاهيتها ونمائها.

ولأن المملكة تعيش منعطفا هاما في تاريخها على هدي رؤية 2030 التي أقرت تطوير سائر مجالات الحياة، نحو مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح. فقد تنادت مجموعة من الكفاءات الوطنية إلى ضرورة توحيد الجهود وجمع الكلمة لتكوين مبادرة (أصدقاء الإستراتيجية) كتجسيد حقيقي لتلك التطلعات، حيث اصطفت مجموعة من أبناء الوطن الذين يتمتعون بالقدرة والخبرة والعلم والمعرفة.

وبعد أن بذل القائمون عليها جهدا كبيرا خلال الفترة الماضية لاستشراف الواقع وتحديد الطموح، واستطاعوا اكتساب مجموعة كبيرة من الأعضاء الفاعلين القادرين على تجسيد الفكرة إلى واقع والحلم إلى حقيقة، تجاوبت وزارة الموارد البشرية معهم وقامت بمنح رخصة الاعتماد للمبادرة في 29 ديسمبر الماضي كمبادرة اجتماعية.

ما يميز المبادرة أن الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها كبيرة وعظيمة، ويتحلى أعضاؤها بطموح لا تحده حدود، حيث تهتم بنشر الثقافة الإستراتيجية لرؤية المملكة 2030، وبناء شبكة من الكفاءات الإستراتيجية الوطنية، وإيجاد أجواء تشاركية ومعرفية بين تلك الكفاءات، وتعزيز مفهوم الشراكات الإستراتيجية بين قطاعات الأعمال، وتوفير وتقديم الاستشارات والحلول للقضايا الإستراتيجية.

كما أنها مظلة تنطوي تحتها جميع القيادات الوطنية الإستراتيجية الفاعلة، لتسهم بما حصلوا عليه من علم ومعرفة في مؤسسات التعليم العالي داخل وخارج المملكة، وما اكتسبوه من خبرة واسعة تعود إلى سنوات طويلة في تشكيل الإضافة المطلوبة التي تنعكس إسهاماتها بإذن الله على السياسات الإستراتيجية للمملكة، تفعيلًا للدور الذي يُنتظر من منظمات المجتمع المدني القيام به في هذه المرحلة المهمة من تاريخ البلاد.

ولمن يتصور أن مثل هذه المبادرات هي نوع من التنظير أو الترف النخبوي البعيد عن الواقع أقول إن التخطيط الاستراتيجي السليم هو أولى الخطوات الضرورية لإنجاز الأهداف المرجوة، وتحقيق التطور المنشود، بل إنه قد يفوق بقية عناصر الإنتاج التقليدية الأخرى من موارد ورأس مال وغير ذلك، لأنه الضامن لحسن استخدام تلك العناصر وتسخيرها وتوجيهها بالصورة المثلى.

وفي عهد الرؤية التي ركزت على اتباع التفكير العلمي السليم كأساس لتحقيق النهضة والتطور، فإن أهمية التفكير الإستراتيجي تزايدت وتعاظمت، لا سيما مع توجه الدولة للحاق باقتصاد المعرفة، والاندماج الكامل مع الاقتصاد العالمي، والدخول في شراكات واسعة مع مؤسسات عالمية عملاقة، وهو ما يقتضي تغيير أسلوب التفكير النمطي السائد إلى أساليب أكثر حداثة وتطورًا.

كذلك فإن انتقال الكثير من الشركات العالمية إلى المملكة وإنشاء مقراتها الإقليمية في الرياض، والذي بدأت خطواته الفعلية خلال الفترة الأخيرة ويتوقع أن يكتمل خلال هذا العام يتطلب وجود أساليب إدارية أكثر ارتباطا بالعصر ومواءمة مع الأنماط الإدارية والفنية التي تتبعها تلك الشركات العالمية المرموقة والتي لا تتخذ أي خطوة إلا بناء على دراسات تعتمد على التفكير الإستراتيجي وتستصحب جميع المتغيرات وتضع في حساباتها كل المعطيات الراهنة والتوقعات المستقبلية.

العالم يتطور بصورة مذهلة، والاقتصاد لم يعد ذلك العلم الثابت ذو القواعد المعروفة، بل أصبح معطيات وحقائق تتغير بصورة يومية، ولمن أراد البقاء في هذا الواقع فإنه لا مفر من تطوير مفاهيمه وتحديث نظرته وتغيير طريقة تعامله.

وسيأتي – عما قريب بإذن الله- اليوم الذي تتحول فيه بلادنا إلى دولة رائدة في مجال الاعتماد على الإستراتيجية كأساس للتخطيط المستقبلي، وتكون قائدة لهذا التحول المهم على مستوى دول المنطقة، استكمالا لدورها التنويري الذي اضطلعت به طوال تاريخها وعرفت به كقبلة للحضارة وواحة للتقدم والرقي.