مجاهد عبدالمتعالي

القطيف أول ما عرفتها كانت منقبة فلا يظهر لي سوى عينيها، تلك العيون الفاتنة الجميلة جعلتني أغامر بالاقتراب أكثر وأكثر، كلما اقتربت شعرت بكبريائها وعنادها الشديد، كنت أظنها (تتمنع وهي راغبة) لكنها في الحقيقة كانت (تتمنع لأنها راهبة) وراهبة هنا تحمل المعنيين (الحذر من الغريب وتقوى الاحتشام) عندما وثقت بي وآمنت أني لست سوى (راعي غنم مثقف) قادم من جنوب جبال الحجاز، رفعت نقابها عن حجاب يمثلها تمامًا إنها (زينبية) الوجه والفكر والموقف إلى نخاع عظمها، فأحببتها أكثر لأنها تحمل نفس روح جدتي (فاطمة) في جبال عسير، تلك الروح التي جعلت العسيريين يمنحون (النمر العسيري) في جبالهم لقب (أبو فاطمة).

عندما زرت القطيف بزوجتي وأطفالي استقبلتني بأول معرض فني تشكيلي يزوره أبنائي في المنطقة الشرقية، كسرت خوف أبنائي من (تعبئة أجهل أسبابها تجاه الشيعة)، فحكيت لأولادي كيف كنت مع أبي عام 1402 في مسجد حارتنا بمدينة الخميس كان يحوي المصلين من (السنة والشيعة الزيود)، وكنت مع أبي نضم أيدينا وهم بجواري يسبلونها وعندما سألت أبي وكان عمري آنذاك ثمان سنوات لم يزد أن قال: عندما كنت في سنك كانوا يمرون بنا في رجال ألمع مسافرين بقوافلهم في طريقهم للحج آمنين مطمئنين لا يخافون حتى الفاقة، فواجب القرى التي في طريقهم أن تقدم للحجاج ما يسد الجوع وفق إمكانياتها، كان يهمهم ويهمنا (الخلق القويم) في التعامل، وأما ما بين الناس وخالقهم فشأن (لم نتعلم في أرضنا أن ندس أنوفنا فيه)، ثم حكى لي كيف أنه عند ميلادي عام 1973 كان في سورية ورأى رجلًا بزوجته وأطفاله محتاجًا لمن يساعده في دفع سيارته بضعة أمتار لعلها (تشتغل)، وعندما اقترب لمساعدته رأى الصليب معلقًا بصدره، فلم يتردد في مساعدته ثم كانت دهشته العاطفية، عندما قال له الرجل بعد أن (اشتغلت السيارة): الله يحفظ لك أولادك ويبارك لك في عمرك، فكأنما أعاد اكتشاف نفسه من جديد، وشعر بنشوة (إنسانية) واتساع للعالم لم يشعر به من قبل.

ورثت هذه الحكايا من والدي وزادها حكايتي الخاصة التي ظننت أني لن أحكيها في صحيفة يوماً من الأيام، حيث سافرت قبل قرابة عشرين عاما وأنا في شرخ الشباب إلى مدينة عربية وبقيت مع (الخوري) مواظبًا على زيارة الكنيسة باحثًا عن (الحقيقة) وبعد بضعة زيارات حضرت فيها مرة تعميد طفل ومرة أخرى زواج، أخذني الخوري إلى مكتبه وبدأ يسرد على مسامعي بعض ما قرأته من كتب المستشرقين في (نقد الإسلام) فقلت له: لقد قرأت ما تحكيه وهو مكرر بالنسبة لي، فتبسم في وجهي ومسح على رأسي كنوع من المباركة ثم بدأ يحكي لي عن عقيدته المسيحية، فلما سألته عن الأفضل بين أن أكون (أرثوذكسيًّا أو كاثوليكيًّا أو بروتستانتيًّا) تفاجأت في إجابته بنفس رائحة (الجيفة المنتنة) للتعصب الطائفي الذي ضايقني في بعض من عرفتهم من رجال دين في الإسلام، فاستأذنته بالانصراف وكانت الكنيسة في مرتفع بسيط يطل على ساحة مشهورة في ذلك البلد، في تلك اللحظة وأنا أحكي هنا بكل تجلي الأطفال: (لقد خرجت من الكنيسة هابطًا من المرتفع الجبلي إلى الساحة وأنا أشعر بنفسي كالطير الحر خفيف النفس عميق الروح فلقد وجدت خلاصي في دين الإسلام كما أفهمه فلو سألني امرؤ عن (أنواع التوحيد) مثلاً لقلت له: لا أؤمن بأنواع ولا تثليث في التوحيد، بل أؤمن بسورة الإخلاص فقط كمعنى (كامل وجلي لحقيقة التوحيد) وما عداها تفاصيل في (علم الكلام/‏ العقائد) الإسلامي يشبه تماماً ما تجده في كتب (علم اللاهوت) عند المسيحيين، وأريد أن ألقى الله ونفسي خالية من هذه الشقشقات الكلامية مهما ملأها العقائديون بآيات وأحاديث يستبيحون بها دماء بعضهم بعض، ويكفرون بها بعضهم بعضا، قبلتهم واحدة ونبيهم واحد.

أعود للقطيف في كبريائها وحشمتها (الزينبية) في إحدى يديها غصن ريحان، والأخرى قبضة مشدودة تمنيت أن تبسطها لكنها كانت تردد بصوت منخفض (القابض على دينه في آخر الزمان كالقابض على الجمر) ولن أفك قبضتي ولو كان بداخلها جمر، قلت لها بصوت أشد انخفاضًا: أنت في القرن الواحد والعشرين، ارتفعي إلى مستوى ما حولك فهذه المساجد مفتوحة وهذه الحسينيات مفتوحة، وطريقك إلى مكة والمدينة لا يحتاج جواز سفر أو فيزا، صمتت لوهلة وقالت: أنت من أرض الجبال التي (يصعد إليها السحاب من البحر) فتظن كل الناس مثلك لا يعانون رهاب المرتفعات، أما أنا فحورية البحر وفي طبعي خوف الغريب مهما أعطاني من حب ومودة فهو في نظري ونظر أبنائي صوت (أبو إمغوي) حتى ولو كنت أنت يا (راعي الغنم المثقف).