إبراهيم المازني

ماذا يصنع أحدنا إذا قدمت له صحفة فيها طعام هذا أول عهده به، قد يكون هذا اللون الجديد الذي يطاف به عليه أشهى ما ذاق أو يذوق في حياته ولكن جهله به حقیق أن يكون مدعاة للتهيب، فتراه يود لو سمع من إنسان كيف طعمه؟ وما هو؟ ومن أي شيء ركب؟

ليطمئن ويقبل عليه آمنا واثقًا من التذاذه، جامعا بين متعة الخيال وحسن الحقيقة.

ثم هو - حق بعد أن يسمع ما ينفي قلقه - لا يملك إلا أن ينظر إليه ويحدق فيه من قريب ومن بعيد. ويمد إليه يده، ولكن في إشفاق.

ولا يتناول ويأكل كما يفعل المجرب العارف بما ينتظر، بل يقلبه ويقدم ويؤخر، فعل الفاحص المتقصى، ويحمل إلى فمه اليسير من هنا وهنا في حذر وأناة، ويحرص ألا يتجاوز النزر الذي لا يملأ الفم، ثم يلوكه ويتذوقه، وعينه ثابتة الحملاق، وعلى وجهه سمات التفكير، حتى إذا اطمأن مضى..

كذلك أراني مع الجديد من الكتب: أخشى التغشية وأخاف إضاعة الوقت فيما لا طائل تحته ولا محصول وراءه، أو فيما هو شر من ذلك.

ولو أني لم أكن قرأت شيئًا لما تهيبت جديدًا، ولا أشفقت أن يفسد على لذة قديمة أفدتها. ولكن إلفي للجيِّد من براعات الكتاب والشعراء يدفعني إلى الضن بها أن أنغص على نفسي متعتها بهذا الجديد الذي لا أدريه كيف يكون.

ولا يتعجل القارئ فيحسب أني أكبر القديم لأنه قديم، وأمقت الجديد لأنه جديد، فما لهذا محل في نظري. وليس من فضل أحدنا أن يتقدم به الزمن أو يتأخر.

وقد أتردد في قراءة كتاب مضى على موت صاحبه مئات من السنين. لأنه يكون جديدًا بالقياس إلى وإن كان قديمًا من حيث عمره في هذه الدنيا. ومع ذلك هبني كنت أؤثر كل قديم على كل جديد، فماذا إذن؟ من الذي يستطيع أن يتجرد من المودات والخصومات وما إلى ذلك وأن ينصف معاصرًا له الإنصاف الواجب؟

من الذي يسعه أن يكون على يقين جازم من أن الزمن سيؤيد رأيه في معاصره بعد عشرة أعوام أو عشرين أو مائة؟ كتابك يا معاصري بديع رائع. أعترف بذلك ولا أنكره.،ولكن أنفك الضخم يجعل شكلك مرذولًا أو مضحكا، فتقل روعة آرائك وحسنها كلما تصورت هذا الأنف الذي ركب على وجهك، وليس يسعني إلا أن أتصوره وأحضر أمام عيني!

وهذا الكاتب الآخر، رجل فاضل عظيم المواهب، ولكنه صريح جريء يتقحم على الناس بآرائه فيهم ولا يبالي من رضى ممن منهم، وأنا من الساخطين أو المزاحمين له في ميدانه، فليس يروقني أن أرى كلامه مطبوعًا.

ولا سبيل إلى شيء من هذا وأشباهه حين تتناول كتابًا عليه جلال القدم وبعيدًا عن عصرك بكل ما فيه من الجلائل والصغائر وكم كتابًا تخرجه المطابع في العام لا بل في الأسبوع أو اليوم؟

ليكن محصول المطابع أو ثمراتها - إن صح هذا التعبير ـ كثيرًا أو قليلًا، فما من شك في أن ما تخرجه في اليوم أكثر مما يسع أشره الناس أن يقرأ في اليوم.

وما أكثر ما نتلهف ونتحسر لأن الوقت أضيق من أن يتسع لقراءة ما نود أن نقرأ؟ من منا لا تضطره المشاغل أو العلل أو الملل أو غير هذا وذاك إلى طي كتاب يريد أن يلتهمه، أو إلى الاكتفاء بواحد من مئات؟ بل من منا لم يخطر له خاطر لم يجد وقتًا لتقييده، ثم كرت الأيام واستسر الخاطر في ظلام النسيان، فكأنه ما مر بالذهن !

والزمن ماض لا يثقل رجله ولا يتوقف، والمطابع دائرة لا تكف عن إخراج الكتب ولا تبالي اقرأها كل شراتها، أم أهملوها على رفوفهم، وإذا كان الناس اليوم لا يقدرون أن يقرأوا كل ما يكتب فأحر بهم أن يكونوا في مقتبل الأيام أعجز.

1939*

* كاتب وشاعر مصري «1889 - 1949»