بلند الحيدري

مما لا شك فيه، أن الدين الإسلامي، قد أولى أهمية فائقة للقراءة والكتابة وكأنهما من بعض متممات وعي الإنسان المسلم بدينه، ومن بعض مستلزمات تعميق إيمانه به، وفي القرآن الكريم غير آية قد جاءت على ذكر القلم تكريمًا له اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم بل وحتى القسم به والقلم وما يسطرون.. وإن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ومن تولى أمور المسلمين بعدهم لم يكفوا عن الحث على ذلك، فبالحرف العربي يدون وينتشر القرآن والإسلام، وبه تناقلت مشارق الأرض ومغاربها أحاديث الرسول، فخرج الخط بذلك عن مجرد كونه وسيلة تعبير وإيصال إلى غاية في التفاضل على غيره من الخطوط بتلك القدسية التي عززت من مكانته وأوثقت الصلة بين جماله ودلالته اللفظية والمعنوية فهو كما يقول الإمام علي من أهم الأمور وأعظم السرور وصار للمجيدين في صنعة الكتابة فضل الدالين إلى الخير والإيمان، يحمله كابر عن كابر وصية في عنقه ويتبارى الحكام والولاة في رعايته، ورجال الدين في اعتباره جهدًا مباركًا حتى أن عبدالله بن العباس الملقب بحبر الأمة قال في أحد الخطاطين إن رجلا كتب بسم الله الرحمن الرحيم فأحسن تمطيطه فغفر الله له وأن الوالي عبدالله بن طاهر توفي عام 884م - رد مظلمة لأحدهم لأنها لم تستكمل نفسها في خط جميل: أردنا قبول عذرك فأقطعنا دونه ما قابلنا من قبح خطك، ولو كنت صادقًا في اعتذارك لساعدتك حركة يدك، أو ما علمت أن حسن الخط يناضل عن صاحبه ويوضح الحجة، ويمكنه من درك الغاية وبهذا القول كان يستعيد قولا للإمام علي عن كون الخط الحسن يزيد الحق وضوحًا..

وكان بعض القادة من المسلمين يوصون بخطاطيهم خيرًا عندما يضطرون للسفر، وكان كل منهم يحاول جاهدًا أن يصل إلى المبرزين منهم وجمع أعمالهم حتى ليروى أن سيف الدولة الحمداني كان يحتفظ بقرابة خمسة آلاف ورقة مكتوبة بخط عبدالله بن مقلة.

ولعل غنى الخط الكوفي وسعة انتشاره وكثرة أنماطه وأنواعه تعود إلى تلك العاطفة الدينية التي يكنها المسلم للخط، والتي تدفع بالخطاطين باستمرار للإبداع فيه، والتذكير بكونه الخط الذي واكب ولادة الدين الإسلامي وبدأت بأشكاله المزواة البدائية انتشار القرآن الكريم في أوائل سنوات الهجرة، ويوم أن اصطلح على تسميته بالخط الكوفي في فترة متأخرة، كان قد استتب أمره ضمن نسج زخرفي رائع وذلك بدءًا من القرن الثامن الميلادي وإلى حين شهد أروع ازدهاراته في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.

ويرى «لنكس» الخبير في الفن الإسلامي بأن من الممكن «اعتبار الخط الكوفي إحدى الوسائل العظيمة التي استخدمت لنشر الدين في كل العصور».

خاصة بعد أن انتدب كبار الخطاطين المسلمين أنفسهم للقيام بهذه المهمة الشريفة من أمثال على بن البواب الذي تنتسب إلى خطه مخطوطة رائعة للقرآن الكريم كتبها عام 1001 للميلاد وتحتفظ بها مكتبة جستربيتي بدبلن، وضبط فيها نسبة الدقيقة القائمة على اعتماد حرف الألف مقاسًا لحساب كل الحروف الأخرى.

وقد شهدت فترة حكم المماليك في مصر تكريسًا لا مثيل له في خط المصاحف والعناية بزخارفها وعلى أيدي خطاطين ملمين بأصول الخط كابن الوليد، تلميذ الخطاط المشهور ياقوت المستعصمي، والزخرفي أبي بكر صندل، وابن مبدر وغيرهم ممن أغنوا تلك الخطوط بما يحيط بها من زخارف على جانب كبير من الدقة والرهافة، وثمة زخارف مدت بأصولها إلى تأثرات خارجية سرعان ما أصبحت جزءًا من الأرابيسك الإسلامي.

ولانتشار الإسلام في مشرق الأرض ومغربها، ودخول مختلف الأقوام فيه، وسعي كل قوم وكل قطر إسلامي أن يميز نفسه بخط معين وزخارف معينة، فضل كبير على وفرة أنواعه وغنى أساليبه، فإن رحل للمغرب العربي كان لنا منه ضرب جديد في الخط ونمط فريد كالذي نجده في مصحف محفوظ في متحف فكتوريا وألبرت تحت رقم 1405 ب.ل.س. وقد خط باللون الذهبي على ورق مخضب باللون الأزرق ويعود إلى القرن الثالث عشر، وإن مر الخط الكوفي بالهند كان كوفيا هنديا، وإن وقع إلى خلفاء بني عثمان جندوا له من كبار الخطاطين من أبدعوا فيه وتفاضلوا في زخرفته، وهو في إيران موضع عناية وتكريم كبيرين أغنيا نماذجه وأساليبه.

ولا يخفى على أحد من أن الخط العربي يوم أن وقع إلى الصين تأثر بالخط الصيني وقل مثل ذلك بالنسبة للخط العربي في بلاد الأندلس.

وأخيرًا.. إن الخط العربي كشكل، كان طوال رحلته عبر القرون الماضية ملتقى حوار مستمر بين العلم والفن، يعمق وعينا بهندسته، ويرهف حسنا بجماليته، ويرغم العين على أن تتبع كل حرف من حروفه وكيفية تداخل بعضها ببعض بما يغير مراكز اللوحة باستمرار فيخيل إليك أنه يتحرك وهو جامد وفي ذلك خصيصته التشكيلية الرائعة.

1996*

* شاعر وكاتب عراقي «1926 - 1996»