محمد السعد

يعود أصل كلمة فلسفة (Philosophy) إلى اللغة اليونانية القديمة، والترجمة الحرفية للمفردة: محبة الحكمة. وهي ترجمة مبهمة وأحيانا مضللة، فالحكمة مفهوم واسع غير محدد ولا يعبر عن واقع الفلسفة وسياقاتها الثقافية، والحكمة المذكورة في الآية الكريمة: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة) اختلف المفسرون في تحديد معنى مباشر لها.

إذن ما الفلسفة وما طبيعة هذا النشاط، وكيف يمكن لنا ترجمة كلمة (Philosophy) وتحديد المقابل المعرفي والثقافي لها في اللغة العربية؟ هل يمكن اعتبار الفلسفة من العلوم الدينية المتعلقة بمعتقدات الشعوب اليونانية قديما وبالكنيسة وتعاليمها في وقت لاحق؟ دعونا نأخذ مفهوما شائعا عند الفلاسفة يكثر تداوله في كتب الفلسفة والفكر الغربي وهو مفهوم «الإرادة الحرة»، والتنظير لمعتقد «الإرادة الحرة» في الفلسفة كان نتيجة لتأثير عقيدة الخطيئة في الديانة المسيحية، وهذه المسألة شغلت الفقهاء العرب عند دراستهم لمسائل القضاء والقدر وأفعال العباد وهل الإنسان مسير أم مخير، وهي أسئلة عقدية بامتياز أفرد لها البخاري كتابا بعنوان «خلق أفعال العباد». فما علاقة الفلسفة إذن بالعقائد الدينية التي آمن بها الفلاسفة طوال القرون الماضية؟

يقول المفكر الإنجليزي برتراند رسل متحدثا عن معتقدات أفلاطون في مسألة الخلود: «إن روح الفيلسوف الحق التي تحررت أثناء الحياة من عبودية الجسد سترحل بعد الموت إلى العالم الخفي فتعيش عيشة النعيم في صحبة الآلهة. أما الروح المشوبة التي أحبت الجسد فستصبح شبحا مخيفا يعاود الجسد في قبره، أو تدخل في جسم حيوان فتحل مثلا في حمار أو ذئب أو صقر، حسب ما تتسم به من خصائص، فالرجل الذي اصطنع الفضيلة في حياته بغير أن يكون فيلسوفا سيصبح نحلة أو زنبورا أو نملة».

يتضح من حديث رسل أن الشعوب اليونانية تنظر للتفلسف بوصفه سلوكا دينيا، فالفلسفة لم تكن نشاطا عقليا مستقلا عن أي معتقدات دينية بل سلوكا دينيا يتوق لفهم الشرائع السماوية ومحاولة تأويلها، فالفيلسوف مجرد شخص متدين يحمل دوافع دينية لتأويل معتقداته الدينية وتفسيرها، والفلسفة إذن نتاج فكري مرتبط بالأديان والشرائع ويحاول تأكيدها. إذن عند دراسة الفلسفة فإننا لا نتعامل مع مادة علمية متحررة من المعتقدات الدينية، بل نتعامل مع نشاط فكري يتضمن عناصر ومعتقدات دينية مختلفة، وأساطير ثقافية لا يمكن فصلها عن النشاط الفلسفي. يقول برتراند رسل: «والمرحلة التالية من مراحل الفلسفة اليونانية، أعنى المرحلة المرتبطة بالمدن اليونانية في جنوبي إيطاليا، أكثر اصطباغا بالدين، وبالمذهب الأورفي على وجه التخصيص». والأورفية كما نعلم ديانة شائعة في اليونان القديمة مرتبطة بأسطورة أورفيوس وقد اعتنقها كثير من أشهر فلاسفة اليونان وأهمهم أفلاطون.

ولكن هل تحررت الفلسفة بعد ذلك من الأديان أم ظلت مرتبطة بالدين ومتداخلة معه؟ يقول رسل: «إن رجال الكنيسة لبثوا حتى القرن الرابع عشر يحتكرون الفلسفة احتكارا حقيقيا ولهذا كتبت الفلسفة حتى ذلك الحين من وجهة نظر الكنيسة»، ولم تنقطع العلاقة الأزلية بين الفلسفة والدين بعد ذلك بل زادت العلاقة توطدا، واستمر الفلاسفة في تفسير معتقداتهم الدينية عبر بوابة الفلسفة، وهنا يقول سبينوزا مفسرا عقيدته الدينية المؤمنة بوحدة الوجود: «الجوهر في الأشياء هو ما يوجد في ذاته ويتصور بذاته، أي هو ما لا يحتاج تصورا له إلى تصور شيء آخر، ولا يمكن للجوهر أن يكون إلا واحدا». وهكذا هي غالب أفكار سبينوزا وديكارت وهيجل، ذات طابع عقدي ديني مرتبط بثقافة بعينها ولم تكن مشتركات إنسانية يمكن نقلها بمعزل عن سياقاتها الدينية.

تتبادر للذهن أسئلة متنوعة عن طبيعة الفلسفة وما المقابل المعرفي في الثقافة العربية للفلسفة. إذا وضعنا في الحسبان أن كل المسائل والقضايا التي تناولها الفلاسفة في الثقافة اليونانية أو المسيحية قد تناولها الفقهاء العرب، فهذا يعني بشكل أو بآخر أن علم الفقه في الحضارة العربية الإسلامية، يشابه إلى حد كبير النشاط الفلسفي مع اختلاف المرجعية الدينية والنصوص المقدسة، إذن فإننا نستطيع ترجمة الفلسفة اليونانية بالفقه اليوناني أو الفقه المسيحي، وهي ترجمة تربط الفلسفة بسياقاتها الدينية ولا تتعامل معها بوصفها مشتركا إنسانيا.