مريم النويمي

لم أكن أعرف أن المشوار طويل، لم أدرك أنه العلم الذي لا ينتهي، ولا يستقر، فكلما آمنت بشيء، أثبتت التجارب والأيام أن هناك ما هو أكثر جدوى، فأزداد يقينًا بأنني لا أعلم وأحتاج إلى أن أتعلم أكثر. هكذا كانت رؤيتي وبسذاجة طالبة مبتدئة، إبان دخولي كلية الطب.

رأيت أن أساتذتي يعرفون كل شيء، وأقسمت لكل من أعرف، أنهم الأفضل، فإن مرض أحدهم أخذته إلى أحد أساتذتي، فخورة بأنني أتعلم على يديهم، أريدهم أن يثقوا بي، لأن التلميذ من أستاذه.

مواقف تسطع في الذاكرة كشاهد عظيم، أتذكر في سنتي الخامسة بالكلية، حضرت عيادة مع البروفيسور علي شعبط استشاري أمراض المخ والأعصاب لدى الأطفال، كان لحضوره هيبة - رحمه الله - عاين أحد مرضاه، وطلب كل الفحوصات له، فتنبهت إلى أن هناك فحصا من الممكن أن يفيد، قلت دكتور (ممكن أن نطلب له هذا)، أشاد بي أمام زميلتي التي رافقتني حضور العيادة، وأضاف الفحص للمريض، كان بإمكانه، أن يضيفه بينه وبين نفسه، أو أن يطلبه بالزيارة التالية للمريض، كنت مجرد طالبة وهو قامة علمية.

عرفت حينها أن الأستاذية ليست درجة علمية بقدر ما هي سلوك، تعلمت أن نقبل الرأي من أصغر عضو في الفريق الطبي، أن نمتدح ونشجع، كنت فخورة بأساتذتي حد الزهو، اندهاشي بهم لم يتغير وكأنني ما زلت تلك الطالبة، التي آمنت أن أساتذتها أحسن دكاترة في الدنيا.

حينما توفي البروفيسور شعبط، انتابني حزن، شعرت بعظم الخسارة، بكته الجامعة وأطباؤها وتلامذتها.

وبالأمس سطع مما سكن في ذاكرة تلك الطالبة المبتدئة، إجابة أستاذها حينما ظنت دفعتها أن أستاذهم درس بكالوريوس الطب في الخارج، لأنهم اعتقدوا أنه من الصعب أن يكون مثله متخرجا في جامعتهم هذه، فوقف في منتصف القاعة وأشار بيده إلى أحد مقاعد المدرج، وقال: بل جلست على هذا الكرسي وتعلمت بين هذه الجدران وتخرجت من بين أسوارها، ذلك يعني أننا كلنا نستطيع أن ننجح، ونتخرج، ونلمع في مجالنا. أضاء لنا ليس شمعة، بل شموعا، شد على أيدينا، علمنا أن الإنسان إذا أراد أن يتعلم سيتعلم، بأي إمكانيات متاحة.

ذلك الأستاذ خريج كلية الطب بجامعة الملك عبدالعزيز، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف عام 1980، الذي ذاع صيته، ليصير البروفيسور حسان عبدالجبار، أستاذ أمراض النساء والولادة وعلاج العقم وأطفال الأنابيب والمناظير، أستاذا في كلية الطب بالجامعة نفسها، حصل على الزمالة الكندية والأمريكية في طب النساء والولادة، أحب العلم فأحبه، ونشره، فكتب الكثير من الأوراق العلمية، أثرى تخصصه بالعلم والمعرفة، اهتم بطلابه ومرضاه، اتسع لهم قلبه، احتواهم، علمهم، وعالجهم.

الأحد الماضي صباحا ونحن في طريقنا لأعمالنا باغتنا خبر وفاته!

الأستاذ الذي أضاء لنا الدرب لنكون ما نحن عليه اليوم، الذي ولدت على يديه زمر من الأطفال، وتتلمذ على علمه أفواج من الأطباء، رحل بهدوء، دون أن نسمع أنه تعثر بمرض، مضى والابتسامة ذاتها التي عهدناها على محياه، تركنا وهو في أوج عطائه، فقد قُبضت روحه في طريق عودته من مؤتمر كان أحد رواده.

العظماء هكذا، يرحلون في عز توهجهم، تاركين لنا مصابيح نهتدي بها، قدوات نحاول السير على خطاهم، وحينما يرحل الأستاذ يشعر تلامذته، أن العلم تناقص، وأن الفقد كبير.

بكينا البروفيسور حسان عبدالجبار، صدمنا رحيله، ولكن كما غرد أستاذنا قبل أسابيع على حسابه في تويتر وكأنه يتنبأ بوفاته «روح وريحان وجنة نعيم».