جدة: محمود تراوري

يواصل إبراهيم البليهي سعيه الحثيث لـ«مشروع تأسيس علم الجهل لتحرير العقل» مصدراً كتابه الجديد «حضارة معاقة - إمكانات هائلة تدار بحكمة هزيلة» والذي قال عنه:

كان المقرر أن أصدر كتابًا بتفاصيل شاملة، عما تختلف به الحضارة المعاصرة عن كل الحضارات القديمة، وكان المقرر أن يكون عنوانه «التغيرات النوعية في الحضارة الإنسانية»، وخوفا من ألا تُمهلني الحياة لإنجاز الكتاب المفصل، فقد أجملت الموضوع في الفصل الذي بعنوان مكتسبات نوعية، تميزت بها الحضارة المعاصرة، كما كنت أنوي إصدار كتاب بعنوان

«العقل يحتله الأسبق إليه»، لأعالج أكبر معضلة منعت بزوغ الإنسان الحديث، كما تتيحه له قابلياته العظيمة، فأجملت الموضوع في الفصل الذي بعنوان «الجهل البنيوي يتحكم بالعقل البشري»، لأني خشيت ألا تمهلني الحياة لإنجاز كل الكتب، التي وضعتها ضمن مخطط المشروع، وأرجو أن يكون في الإجمال ما يغني عن التفصيل.

عظمة الأخلاق

يرى البليهي «إن أكثر الناس يتوهمون أن الإنسان قد بلغ الغاية في تقدمه، أما أن الإنسان ذاته رغم كل التقدم العلمي، والتطورات التقنية والوفرة الهائلة في الأدوات والوسائل، لم يتجاوز متطلبات البقاء، أي أنه ما زال مستغرقا في متطلبات جسده، فهو يتعلم للوظيفة وليس من أجل المعرفة، وتظل متطلبات البقاء تستنزف اهتمامه ووقته وطاقته، وبذلك يظهر أن الإنسان ذاته لا يزال بدائيا».

ويشدد البليهي على بدهية شائعة حين يقول «إن تحضر الإنسان يقاس بعظمة أخلاقه وارتقاء فكره، وفي تحرره من السوابق، فالسوابق عوائق، ويكتسب الإنسان من القيمة الإنسانية المحضة، بمقدار انعتاقه مما هو مكبَّل به من العداوات، والتحيزات والولاءات الحقيقية والتصورات، بينما يوجه اتهاما مباشرا للإنسانية قائلا: إن الإنسانية كلها لا تزال تفكر بعقلية الماضي، غير أنها تملك إمكانات هائلة، إلا أن استغراقها في الصراعات وفي ركائز الاقتصاد، وفي متطلبات البقاء، قد أبقاها معاقة فكرًا وأخلاقا.

بلبلة العقل

الكتاب المكون من أربعة فصول هي «الجهل البنيوي يتحكّم بالعقل البشري، تعليم للخدمة والإنتاج وليس للفكر والوعي والأخلاق، مكتسبات نوعية تميزت بها الحضارة المعاصرة، اختلاف نوعيٌّ بين المعرفة النظرية والأداء العملي»، إضافة الى التمهيد والمقدمة، يذهب فيه البليهي إلى أن العالم مغمور بطوفان المعلومات، لكن ذلك يبلبل العقل أكثر مما يسدد خطاه، لذلك ينبغي التركيز على إصلاح التفكير والعناية بالتفكير العقلاني، وتوعية الإنسان بالنقائص الطبيعية للعقل البشري، والتأكيد بأن الأصل في تفكير الإنسان مسلكه.

ويؤكد البليهي أن «الشواهد الكثيرة على سهولة تضليل الناس، أدَّتْ إلى نشوء الفكر العقلاني، الذي هو في جوهره فكر نقدي فاحص، فقد توفر اقتناع تام بأنه لا بد أن يدرك العقل هذه الحقائق، عن طبيعته وتكوينه وقابلياته، وأن يكون متأهبًا دائمًا لفحص قناعاته وإعادة النظر في مسلماته، وأن يضطلع بمهمة الإيقاظ المستمر لذاته والحفز الدائم لنفسه، وأن يقتنع بأنه لا خلاص له من أغلاله إلا بنقد شديد للواقع، وتشكك مستمر في المألوف، فالإنسان لا يفطن لاستلابه ولا ينتبه لاختطاف عقله، إلا إذا صُدم بنقد شديد يتحداه ويستفزه ويدفعه لمراجعة ذاته، ويحمله على التأكد من محتويات ذهنه، ويضطره إلى إعادة النظر في مسلمات ثقافته، ويحفزه إلى فحص تفكيره، والتعرف على آليات استجاباته، والتأكد من مرجعية اهتماماته وتفضيلاته وآرائه وأحكامه وأسبقياته.

الشعور بالقصور

ويذكر البليهي بأن العقلانية بمعناها الأشمل وليس بالمعنى الفني المقابل للتجريبية قامت على اكتشاف نقائص الإنسان وتأكيد ضعفه، وقابليته التلقائية للسبات الثقافي والاستغلاق العاطفي، والعقم الذهني والاجترار المعرفي، وليس كما أشيع من أن العقلانية قامت على تأليه العقل وادعاء كماله، لقد كان اكتشاف قابلية العقل البشري للسبات التلقائي، هو الاكتشاف الأكثر أهمية في تاريخ الحضارة، فبهذا الاكتشاف تحقق الإنسان من أن عقل الفرد والجماعة والمجتمع والأمة لا ينمو ويتطور، إذا هو رضي عن ذاته واكتفى بما هو عليه، وإنما الشرط الأساسي والمبدئي للنمو والتطور، هو الإحساس القوي بالحاجة إلى التجاوز والشعور الشديد بالقصور، والاقتناع التام بقابليات الإنسان للجمود والتحجر، والثقة التامة بأن تطوره ونماءه وتألق قدراته، مرتهن بإدراك الشروط الموضوعية لهذا النماء والإشراق، والأخذ بالأسباب التي تكفل يقظة العقل.

الجهل البنيوي

وهو الفصل الذي يشير فيه البليهي، إلى أن الإنسان يتوهم تجاهل العلم أكبر معضلة تواجه البشرية، منذ أن افترقت الأمم بأنساقها الثقافية المتضادة.

ويضيف «لقد انشغل العلم بكشفِ الأشياء، بقصد تسخيرها لخدمة الإنسان، وتيسير حياته، وفي تسليحه بنزاعاته العامة، وتنافساته الفردية، ففهم الطبيعة الذي توصل إليه قِلَّةٌ من الأفراد النوابغ، قد أتاح للبشرية أن تُنتج من الوسائل، ما لا مزيد عليه، في الوفرة والتنوع والفاعلية والإبداع. لكن العلم قد جاء متأخّرًا جدا. فلم تكن عقول البشر فارغةً لاستقبال اكتشافات العلوم، بل كانت مشحونة، بما تراكم خلال القرون دون أي تمحيص، لم يكن العقل البشري قبل العلوم فارغا ينتظر التغذية، بل كان يشعر بالامتلاء والتشبع، الكمال ويشعر بالاكتفاء، لذلك عورضت بقوة كل الاكتشافات العلمية، فقد عورض كوبرنيكوس وجاليليو، وتم إحراق جوردانو برونو، وغيره، وعورض داروين بقوة، واضطر المفكرون الأوروبيون أن يهجروا أوطانهم، ويلجأوا إلى هولاندا الأقل انغلاقا، فالإنسانية لم تشعر بنقص في معارفها لتنتظر ظهور العلوم، بل كانت مكتفية إلى درجة الإغلاق، بما تتوارثه عن أسلافها من أنساق ثقافية، فجاءت الاكتشافات بواسطة أفراد نوابغ انفكوا من أسر الأنساق الثقافية».

الإسهام في الحضارة

يتوصل البليهي في أواخر الكتاب إلى أن الإسهام في الحضارة الإنسانية، يتطلب إحداث تغيرات نوعية كثيرة منها:

1 - الانتقال من علاقات الإخضاع إلى علاقات الإقناع...

2- الانتقال من تعامل النزوة إلى التعامل المنضبط في دولة القانون، والنظم والمؤسسات

3- الانتقال من توهم امتلاك الحقيقة المطلقة، إلى إدراك أن المعرفة البشرية نسبية، وأنها نامية

- 4 الانتقال من فكرة التراجع إلى فكرة التقدم، فالعصر الذهبي آت في المستقبل بإبداعات الأجيال

5 - الانتقال من ثقافة التبرير والانحياز المطلق، إلى ثقافة التناول الموضوعي والاستعداد لقبول النتائج

6- الانتقال من المعارف المجزأة والتعامل مع العلم كمسائل مبعثرة، إلى ثقافة المعارف المترابطة المتكاملة

7 - الانتقال من تمجيد الامتثال والتماثل، وادعاء الإجماع، إلى تمجيد التنوع والاختلاف وإثراء الحياة بالمبادرات

8 - الانتقال من تمجيد الثبات والدوران في المكان، إلى تمجيد التغير الدائم والتطور المنتظم

9- الانتقال من ثقافة الإخفاء والتكتُم والسِّريَّة إلى ثقافة العلانية والشفافية

10 - الانتقال من تبادل الاحتقار بين الناس إلى تبادل الاعتبار والاعتراف