عباس العقاد

كان التشاؤم طبيعيًا معقولًا في زمان شوبنهور فأصبح طبيعيًا معقولًا أن يتصل الرأى والشعور بينه وبين الشبان في مثل عهده و حاله.

صديقنا القديم من جديد! يوم قرأت أنهم سيحتفلون في معاهد الغرب الفلسفية بانقضاء 150 سنة على مولد «شوبنهور» كان شعوري بهذا النبأ كشعور السالك في الطريق بلقاء على حين غرة صديق قديم مستحب اللقاء مذكور البدوات، على شوف إلى مراجعة عهده السابق واستئناف عشرته القديمة

هذا أنت يا صاح؟

وأين كل هذا الزمن الطويل؟

فقد مضت فترة ليست بالقصيرة لم أصاحب فيها هذا «المعرى» من بنى الجرمان ولم أراجع كتبه ولم أساجل آراءه وخواطره وأفانين تفكيره، فلما سمعت أنه سينبت من جديد في ذكرى ميلاده، وأن ميلاد إمام المتشائمين القائلين بأن الولادة أدعى «الذكريات» إلى الحزن والندم - سيصبح في الملأ كله موعدًا لا للغبطة والتبجيل، وأن الدنيا ستشهد هذا الحادث المتناقض كما شهدت نقائض شوبنهور في إبان حياته - عادت إلى الذهن تلك النقائض كلها وتلك الطوائف المقرونة بها، ولاح لى شوبنهور الظريف وهو أول ما يلوح للذهن منه قبل الفيلسوف وقبل الشيخ الوقور

وتلك أولى النقائض والبدوات من صاحبنا القديم: فيلسوف متشائم ولا يذكره الذاكر إلا ابتسم لفكاهاته ونكاته وغرائب عاداته، وولع الدنيا بمناوأته واستخراج شكاياته فإذا ذكرت «شوبنهور» فأنت تذكر الرجل الذى يبشر بالفناء ويستنكر الحياة، ثم يسمع بظهور الهواء الأصفر في برلين فلا يقف في طريقه هربًا حتى يبلغ فرنكفورت، ولا يعود منها حتى بعد جلاء الوباء بسنين. وتذكر الحكيم الزاهد في عرض الحياة وهو لا يترك دانقًا من حسابه في المصرف، ولا يضع النقد إلا في صندوق مكتوب عليه» مادة طبية»... كما فعل العطار الذي يكتب عنوان الفلفل على صندوق الحلوى:

وتذكر الراهب الذى يعربد حتى يلحق به تلاميذه في بيوت بنات الهوى، وينفى لذاذات الدنيا وقد أخذ من جميع لذاذاتها بما استطاع من نصيب. وتذكر المبشر بالبرهمية في بلاد الغرب وقد سمى كلبه «أنما»

أى روح الوجود !! وأبى الصبية من جيرانه إلا أن يسموه شوبنهور الصغير، إذ لم يكن في البيت صغير غير ذلك الكلب المسكين... الذى قال بعض المعجبين بالفيلسوف إنه هو أيضًا لا بد أن يكون من المتشائمين، ولا بد أن يبدو على وجهه ما يبدو على وجه أستاذه من عبوس ظريف.

وتذكر الفيلسوف وقد جلس إلى مائدته في المطعم وأخرج من جيبه كعادته كل يوم جنيها إنجليزيًا فوضعه على المائدة بحيث يراه الحاضرون، ثم يفرغ من طعامه فيرده إلى جيبه ويقول: «و قد كسبت الرهان»... أي رهان ؟؟ رهانه مع نفسه أن زوار المطعم من الضباط لن يتكلموا ذلك اليوم في شيء غير النساء والكلاب وخيل السباق.

وتذكر طالب الجائزة من جامعة كوبنهاجن برسالة لا نظير لها في كتابات عصره، فلما ضنت عليه الجامعة بالجائزة - غفلة منها عن قيمة الرسالة - طبعها وكتب عليها بالخط العريض «لم تظفر بالجائزة من جامعة كوبنهاجن»... كأن هذا تزكية لها وضرب من الإعلان.

وتذكر المتهكم الحانق الذى نقم على بعض الممثلين ارتجاله العبارات من غير كلام المؤلف حتى شكاه الكتاب إلى مدير المسرح فنهاه وأنذره بالفصل إن عاد إلى مجونه... قال شوبنهور: فلما ظهر بعدها في المسرح على ظهر جواده نسى الجواد موقفه وأتى بصوت لا يسمح به في مسارح التمثيل، فارتبك الممثل وصاح بالجواد: ألم تعلم أنهم يحرمون علينا الارتجال بغير تلقين؟! تذكر هذا وأشباهه قبل أن يطرأ على بالك شأن الفيلسوف العظيم وتفصيل ذلك المذهب المستفيض الزاخر المجتمع من بديهة الحكمة وسليقة الفن وشعور الرجل المتصل بالحياة على غير انقطاع ولا مجافاة، كمجافاة النساك في صوامع الدين، أو النساك في صوامع العلم والدراسة.

فإذا ذكرت ذلك المذهب فلعلك واجد فيه من وشائج القربى مثل ما وجدت من طرائف صاحبه ونقائضه وأفانينه. لأنه مذهب شعر بفحواه كل شاب عالج الفلسفة واشتغل بالتفكير في أوائل هذا القرن العشرين.

لقد كان التشاؤم طبيعيًا معقولًا في زمان شوبنهور فأصبح طبيعيًا معقولاً أن يتصل الرأى والشعور بينه وبين الشبان في مثل عهده وفي مثل حاله وإن لم يكونوا على مثاله في مزاجه وأطواره، وخير ما قرأناه في تعليل التشاؤم عند ذلك الفيلسوف الكبير كلمة «دورانت» مقدم طبعته وملخص فلسفته حيث يقول عنه وعن بعض معاصريه:

لماذا كان النصف الأول من القرن التاسع عشر مبعثاً لتلك الأصوات من أصداء العصر يتعلق بها الشعراء المتشائمون على غرار بيرون في إنجلترا ودى موسيه في فرنسا وهيني في ألمانيا ولي بارد في إيطاليا وبوشكين ولرمنتوف في روسيا، عدا الموسيقيين من أضراب شومان وشوبان بل بيتهوفن المتشائم الذى حاول أن يقنع نفسه أنه من المتفائلين بل فوق ذلك جميعه فلسفة الحكيم العميق في تشاؤمه آرثر شوبنهور؟