نجران: قاسم الكستبان

في وقت ينساق فيه الأطفال خلف الصرعات الجديدة والموضة الحديثة بكل ما تأتي به، يحتفظ أطفال نجران بعشقهم للباس المنطقة التقليدي وموروثها الشعبي وزيها المعتاد، على الأخص في مناسباتها واحتفالاتها وأعيادها، حيث يُشاهد كثيرون منهم وهم في سنوات أعمارهم الأولى يرتدون ذلك الزي التقليدي الجميل، يلفون رؤوسهم بالعصبة النجرانية، ويحزمون خصورهم بالجنبية.

ويحرص الآباء والأجداد على تعويد أطفالهم منذ نشأتهم على الحفاظ على هذا الموروث الجميل، وتعد الجنبية والخنجر والعصبة والثوب المذيل موروث أصيل يعكس الإرث الحضاري لمنطقة نجران، ويمتاز بذوق فني وتراثي فريد تتوارثه الأجيال.

التباهي أمام أقرانه

يوضح الراوي، المؤرخ، أحد أعيان منطقة نجران محمد القحص آل هتيلة أن العصبة النجرانية أو كما تعرف بـ«العمامة»، وكذلك «الجنبية» تعدان من رموز المنطقة ورجالاتها وأهلها، يفتخرون بها، ويحرصون على أن يمضي أبناءهم وأسلافهم على خطاهم في التمسك بها، ولذا يعوّدون أبناءهم منذ نعومة أظفارهم على ارتدائها في المناسبات والأعياد وبقية الاحتفالات، هكذا يعلم كل جيل، الجيل الذي يليه، وهذا حصل معي عندما كنت صغيرًا فقد كان والدي رحمه الله يحرص على أن أرتدي الجنبية التي كانت بدايتها من الخشب وكانت تسمى جنبية الستر، حيث يعوّدونا على لبسها في عمر الـ5 والـ6 سنوات.

وكان النجارون يصنعون من الخشب على شكل جنبية ويصنعون لها محزمًا لتثبيتها حول الخصر، وكنا سعيدين بها في ذلك الوقت، وكنا نتباهى بها وبالغترة البيضاء التي نعصبها على رؤوسنا ونحن نرى أنفسنا نرتدي ما يرتديه آباؤنا وأعمامنا وأخوالنا وأجدادنا.

لماذا العصبة

يواصل آل هتيلة شارحًا سبب ارتداء النجرانيين للعصبة أو العمامة، ويقول «كان أهل نجران يعملون سابقًا بأيديهم طوال النهار لتأمين معيشتهم، وكانوا يعملون في البناء أو الزراعة أو الرعي أو جني النخيل والمحاصيل الأخرى، وكان الجميع يعصبون على رؤوسهم ليعملوا بأريحية دون أن تشغلهم الغترة عن عملهم، وبقيت العصبة حتى يومنا هذا مستخدمة في المنطقة ولدى عدد من قبائل المنطقة الجنوبية».

إحساس بالرجولة

يركز المحامي، المرشد السياحي إبراهيم بن جهويل على أن ارتداء الصغار للجنبية النجرانية وهو من الموروث على الرغم من اختلاف أشكالها من زمان إلى زمان يولد لديهم إحساسًا بالفخر وبأنهم أصبحوا رجالًا يعتمد عليهم، وقال «بمجرد ارتداء الجنبية يتولد إحساس جميل لدى الطفل حتى أمام والدته وإخواته حيث يتباهى وهو في قمة سعادته وكأنه يقول لهم إنه كبر وصار بإمكانهم الاعتماد عليه».

وأضاف «كانت الجنبية وسيلة الدفاع الأولى لدى النجراني لحماية الأرض، وقد مرت بمراحل تطور في عهد الدولة السعودية، وصار هذا الموروث محور فخر واعتزاز في المناسبات لما يحمله من تاريخ عريق يتزين به الصغير والكبير في المناسبات والأعياد والاحتفالات التراثية، وهي جزء أساسي من الزي النجراني الأصيل فلا يكتمل إلا بها».

وتابع «كذلك ربطة الرأس بالشماغ أو الغترة (العصبة) صارت رمزًا تراثيّا للنجراني تدل عليه، مثل الرموز الأخرى في بعض الدول والمناطق والقبائل حول العالم، ويمكن عبرها تمييز النجراني حتى على بعد مسافات.

ومن أهم مميزات العصبة سهولة الحركة والتنقل بها لمرونتها وعدم إعاقتها حركة من يلبسها».

تقليد الكبار

يشير محمد بن سمحان آل منصور أن «العصبة» و«الثوب المذيل» وكذلك «الجنبية» كانت تشعرنا ونحن صغار بالفخر والاعتزاز والفرح الكبير والسعادة الغامرة، وكنا نتعمد أن يرانا الجميع، وكأننا نقول شاهدونا فقد صرنا كبارًا ورجالًا، وكان مجرد ارتدائنا للجنبية يشعرنا بأنه لا مجال للخوف وبأننا صرنا رجالًا ولدينا الشجاعة، وكان كل منا يشبّه نفسه بأبيه أو أخيه الكبير أو عمه أو خاله، وكان ارتداؤنا لها في المناسبات التي تصاحبها الألعاب الشعبية يشعرنا بالتميز بين أقراننا خصوصًا حين نلعب ألعابًا شعبية مثل الرازي والشعب بين الكبار، وكان هذا شعور لا يضاهى، ولذا نحرص بدورنا على أن يشعر به صغارنا منذ سنواتهم الأولى، كما نشعر نحن أيضًا بأن موروثنا لن يندثر إطلاقًا».

ويشير آل منصور إلى أن العصبة لم تكن فقط لباسًا يسهل الحركة فقط، بل كانت في أحيان كثيرة تشير إلى حدوث أمر جلل، فإذا ما ارتداها رجل كبير فجأة علم الآخرون أن أمرًا ما قد حدث، وكان الناس منذ مئات السنين يتعصبون خلال الحروب وكذلك عندما يقومون بأي عمل شاق.