يشاع بين الناس أن قول: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء» حديث نبوي، والحقيقة أنه من كلام الحارث بن كلدة، طبيب العرب، لا من كلام النبي الأعظم، صلى الله عليه وسلم؛ ومع ذلك، فالمعنى الذي حمله هذا القول مؤيَّد بالواقع والتجربة، ويعضده حديث صحيح رواه الإمام الترمذي وغيره، وفيه قال صلوات ربي وسلامه عليه «ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلاتٌ يقمن صلبه؛ فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»ـ بفتح الفاءـ وعن هذا الحديث قال الإمام ابن رجب الحنبلي: «هذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها»، وقد بلغ من تأثيره أن أحد كبار الأطباء– ابن ماسويه– قال عند قراءته: «لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض، ولتعطلت المارستانات ـ أي المستشفيات ـ ودكاكين الصيادلة»، وهو ما يؤكد أن الشرع جعل من قِلة الطعام بابًا إلى العافية، ومن الاقتصاد في الأكل سلوكًا نبوّيًا راقياً، لا مجرد توجيه صحّي.
التلاقي بين الموروث الشرعي والطبي ليس أمرًا عابرًا، بل هو تأسيس لمنهج في النظر إلى الجسد والعقل ككيانٍ واحد؛ فالمعدة ليست مجرد وعاء لهضم الطعام، بل نقطة التقاء بين الغذاء والمزاج، والصحة والسلوك، والبدن والعقل، ومن هنا جاءت عناوين لافتة ومؤلفات مطبوعة مثل كتاب: You Are What You Eat للدكتورة Gillian McKeith، وكتابThe Second Brain: Your Gut Has a Mind of Its Own للدكتور Michael Gershon، لتؤكد أن الإنسان ليس فقط بما يقرأ، بل بما يهضم، ويوازن، ويُحسن اختياره، فما نأكله يصنع كيمياءنا، وما نهضمه يؤثر في قراراتنا، بل حتى في علاقاتنا وتفكيرنا، وجيل اليوم عليه أن يدرك هذا الربط العميق، ويتعامل مع التغذية لا كجزء من اللياقة، بل مدخلا للفهم، والتركيز، والسلوك الواعي؛ حتى لو لم يكن هذا الإدراك مألوفًا في ثقافة كثير من الناس.
«غيرشون»، في كتابه المذكور كشف عن شبكة عصبية مذهلة في القناة الهضمية، تحتوي على أكثر من 100 مليون خلية عصبية، وتُنتج نحو 95 % من السيروتونين في الجسم، وتُرسل إشارات للدماغ أكثر مما تستقبل منه، وكأن الأمعاء، لا الدماغ، هي ما تبادر أحيانًا بالتأثير، فتُقلّب المزاج، وتُوجّه الشعور، وتُهيّئ الاستجابة، ولم تعد مجرّد عضوٍ وظيفي، بل دخلت وتدخل في قلب النقاش العلمي حول القرار والسلوك والانفعال. أما «ماكيث»، فتُخاطب الإنسان من مطبخه ومائدته، فتؤكد أن كل لقمة يحملها إلى فمه تؤثر بشكل مباشر في صفائه الذهني وتشتته ونمط انفعالاته وتركيزه، فإما أن تصعد به إلى صفاء، أو تهوي به إلى ضباب، لأن الغذاء جزء من صوته وصبره وملامحه.
أخيرا.. ومما قرأته، فهمت أن الجهاز العصبي المعوي لا يخدم الهضم فحسب، بل يشارك في الإحساس والتفاعل كما ذكر «غيرشون»، وأن التوازن الغذائي لا يُغير شكل الجسد فقط، بل يُغير من داخله، شيئًا من التفكير، وكثيرًا من السلوك، كما بينت «ماكيث». وكل هذا لا يصادم مقاصد الشريعة، بل يتكامل معها، ويفتح للمربين بابًا أوسع لفهم طلابهم وأبنائهم لا من عقولهم فحسب، بل من بطونهم أيضًا.
وأختم بأن العقل لا يعيش وحده في الرأس، والنفس لا تُفهم بمعزل عن الجسد، وما دمنا قد ورثنا أجسادنا بأمانة، فعلينا أن نُحسن فهمها، قبل أن نُحسن نصحها، ومن أراد تربية راسخة، فليبدأ من مائدة بيته، فهي أول مدرسة يتخرج فيها الإنسان السوي.
التلاقي بين الموروث الشرعي والطبي ليس أمرًا عابرًا، بل هو تأسيس لمنهج في النظر إلى الجسد والعقل ككيانٍ واحد؛ فالمعدة ليست مجرد وعاء لهضم الطعام، بل نقطة التقاء بين الغذاء والمزاج، والصحة والسلوك، والبدن والعقل، ومن هنا جاءت عناوين لافتة ومؤلفات مطبوعة مثل كتاب: You Are What You Eat للدكتورة Gillian McKeith، وكتابThe Second Brain: Your Gut Has a Mind of Its Own للدكتور Michael Gershon، لتؤكد أن الإنسان ليس فقط بما يقرأ، بل بما يهضم، ويوازن، ويُحسن اختياره، فما نأكله يصنع كيمياءنا، وما نهضمه يؤثر في قراراتنا، بل حتى في علاقاتنا وتفكيرنا، وجيل اليوم عليه أن يدرك هذا الربط العميق، ويتعامل مع التغذية لا كجزء من اللياقة، بل مدخلا للفهم، والتركيز، والسلوك الواعي؛ حتى لو لم يكن هذا الإدراك مألوفًا في ثقافة كثير من الناس.
«غيرشون»، في كتابه المذكور كشف عن شبكة عصبية مذهلة في القناة الهضمية، تحتوي على أكثر من 100 مليون خلية عصبية، وتُنتج نحو 95 % من السيروتونين في الجسم، وتُرسل إشارات للدماغ أكثر مما تستقبل منه، وكأن الأمعاء، لا الدماغ، هي ما تبادر أحيانًا بالتأثير، فتُقلّب المزاج، وتُوجّه الشعور، وتُهيّئ الاستجابة، ولم تعد مجرّد عضوٍ وظيفي، بل دخلت وتدخل في قلب النقاش العلمي حول القرار والسلوك والانفعال. أما «ماكيث»، فتُخاطب الإنسان من مطبخه ومائدته، فتؤكد أن كل لقمة يحملها إلى فمه تؤثر بشكل مباشر في صفائه الذهني وتشتته ونمط انفعالاته وتركيزه، فإما أن تصعد به إلى صفاء، أو تهوي به إلى ضباب، لأن الغذاء جزء من صوته وصبره وملامحه.
أخيرا.. ومما قرأته، فهمت أن الجهاز العصبي المعوي لا يخدم الهضم فحسب، بل يشارك في الإحساس والتفاعل كما ذكر «غيرشون»، وأن التوازن الغذائي لا يُغير شكل الجسد فقط، بل يُغير من داخله، شيئًا من التفكير، وكثيرًا من السلوك، كما بينت «ماكيث». وكل هذا لا يصادم مقاصد الشريعة، بل يتكامل معها، ويفتح للمربين بابًا أوسع لفهم طلابهم وأبنائهم لا من عقولهم فحسب، بل من بطونهم أيضًا.
وأختم بأن العقل لا يعيش وحده في الرأس، والنفس لا تُفهم بمعزل عن الجسد، وما دمنا قد ورثنا أجسادنا بأمانة، فعلينا أن نُحسن فهمها، قبل أن نُحسن نصحها، ومن أراد تربية راسخة، فليبدأ من مائدة بيته، فهي أول مدرسة يتخرج فيها الإنسان السوي.