جازان: حسين معشي

في زمنٍ تتسابق فيه الدول الكبرى على تطوير نماذج لغوية ضخمة (LLMs) قادرة على إعادة صياغة مستقبل المعرفة والاقتصاد، برزت السعودية كلاعبٍ رئيس عبر إطلاق نموذج ALLaM، الذي طورته الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا).

ووفقًا لتقريرٍ حديث صادرٍ عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) 2025، تم تدريب النموذج العربي السعودي على أكثر من 500 مليار كلمة، وأكثر من 300 ألف نص عربي، تشمل موسوعات وأبحاثًا علمية وأعمالًا تاريخية، ليكون حجر زاوية في بناء مستقبلٍ معرفي متجذرًا في الهوية العربية والإسلامية.

يمثل المشروع تحولًا نوعيًا في مسار الذكاء الاصطناعي عربيًا، ليس فقط بتقليص الفجوة الرقمية اللغوية والأمن اللغوي، بل بوصفه رافعةً إستراتيجيًا لتحقيق السيادة الرقمية والأمن اللغوي، وحماية الثقافية الإسلامية والعربية وتحسين كفاءة الإنفاق الحكومي في مجالات الصحة، المدن الذكية، والبنية التحتية.

نهضة لغوية

أظهرت بيانات المنظمة أن 59% من قواعد بيانات التدريب مفتوحة المصدر عالميًا باللغة الإنجليزية، فيما تحظى لغاتٌ أخرى مثل الصينية والإسبانية بحضورٍ متزايد، بينما تبقى اللغة العربية أقل تمثيلاً في هذا المجال. من هنا، يأتي ALLaM كخطوةٍ إستراتيجية لحماية «الأمن اللغوي»، عبر بناء نموذجٍ قادرٍ على معالجة النصوص العربية بعمق، وفهم سياقاتها الثقافية والتاريخية، بعيدًا عن اختزالات النماذج الأجنبية.

هذا الإنجاز لا يقتصر على تعزيز حضور العربية في الفضاء الرقمي، بل يسهم في إبراز الثقافة الإسلامية وإرثها الفكري بوصفهما مكوناتٍ معرفيةً قادرةً على المنافسة عالميًا. ويؤكد خبراء OECD أن المملكة تضع نفسها عبر هذا المشروع في مصاف الدول التي تنظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه أداةً لحماية الثقافية الإسلامية والعربية والهوية الوطنية، وليس مجرد تقنية اقتصادية.

سيادة رقمية

بينما تعتمد كثيرٌ من الدول على نماذج أجنبية قد تعكس تحيزات ثقافية أو معرفية، اختارت السعودية تطوير بنيتها الخاصة. إن تدريب نموذجٍ ضخمٍ ببياناتٍ عربيةٍ محلية يضمن للسعودية حماية سيادتها الرقمية، وتوجيه الذكاء الاصطناعي نحو أولوياتها الإستراتيجية.

وتُبرز تجربة المملكة في هذا السياق التلاقي بين البُعد الثقافي والبُعد السيادي، حيث يُعد الأمن اللغوي جزءاً من الأمن الوطني. وبذلك، فإن ALLaM ليس مشروعًا تقنيًا فقط، بل مبادرةً ذات بعدٍ سياسي وثقافي واقتصادي.

مقارنات دولية

تظهر بيانات التقرير أن السعودية لا تسير وحيدةً في هذا الطريق. فإسبانيا أطلقت نموذج ALIA لحماية اللغة الإسبانية وضمان مكانتها في عصر الذكاء الاصطناعي. أما الهند، فعملت على تطوير منصة Bhashini لدعم اللغات المحلية وربطها بالخدمات الحكومية والقطاع الخاص.

غير أن ما يميز السعودية هو حجم الاستثمار وسرعة التنفيذ، فضلاً عن ربط المشروع برؤيةٍ شاملة هي رؤية 2030، التي تنظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه ركيزةً أساسيةً لتنويع الاقتصاد، ورفع كفاءة الخدمات الحكومية، وتعزيز الابتكار المحلي. وفيما تركز الهند على التعددية اللغوية الداخلية، وإسبانيا على حماية لغتها أمام الإنجليزية، فإن السعودية تحمل رسالةً أوسع: إعادة الاعتبار للغة العربية عالميا بوصفها لغة علمٍ ومعرفةٍ في عصرٍ رقمي.

اقتصاد وكفاءة إنفاق

يشير تقرير OECD إلى أن الحكومات التي تستثمر في الذكاء الاصطناعي تحقق مكاسب مباشرة في كفاءة الإنفاق العام.

وفي الحالة السعودية، يمكن رصد 3 مساراتٍ رئيسة وهي: الصحة الذكية والمدن الذكية والبنية التحتية الرقمية.

حيث تستخدم السعودية الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بتغيب المرضى عن مواعيد العيادات الخارجية، وهو ما يسهم في تقليل الهدر، وتحسين استغلال الموارد الطبية، وزيادة رضا المرضى. كما طورت السعودية عبر منصة Smart C، نظامًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي لرصد حركة المرور، مراقبة البيئة، وكشف التلوث البصري. هذا التوجه يسهم في خفض التكاليف التشغيلية للبلديات، وتحسين جودة الحياة. في الوقت الذي توحد فيه منصة Deem Cloud الوطنية بيانات 190 جهةٍ حكومية و260 مركز بيانات، تقلل من الاعتماد على خدماتٍ سحابيةٍ أجنبية وتوفر مليارات الريالات عبر تحسين إدارة الموارد الرقمية.

وتؤكد OECD أن هذه المنصة تمثل نموذجًا عالميًـا في تعزيز الأمن السيبراني والسيادة الرقمية للحكومات.

تعزيز الرضا العام

يمتد أثر الذكاء الاصطناعي ليعزز الثقة بين المواطن والحكومة. إذ تشير إحصاءات OECD إلى أن الثقة في الحكومات عالمياً لا تتجاوز 39%، في حين أن الاستثمار في خدماتٍ ذكيةٍ وشفافة يعزز الرضا العام ويعيد بناء جسور الثقة. وفي السعودية، يُنظر إلى مشاريع مثل ALLAM على أنها أدواتٌ لتمكين المواطن من الوصول إلى خدماتٍ أكثر كفاءة، بلغته الأم، وبما يتوافق مع ثقافته.

قيادة إستراتيجية

بينما تركز دولٌ على الجانب الاقتصادي البحت في موضوع الذكاء الاصطناعي، تسعى السعودية إلى صياغة نموذجٍ متكامل يجمع بين:

حماية الهوية الثقافية (الأمن اللغوي)، وتعزيز الكفاءة الاقتصادية (خفض الهدر وزيادة الإنتاجية)، وترسيخ السيادة الرقمية (منصات وطنية مستقلة).

وبهذا، فإن ALLaM ليس مجرد مشروعٍ تقني، بل إعلانًا عن دخول السعودية إلى نادي الدول التي تقود مسار الذكاء الاصطناعي وفقًا لأولوياتها الوطنية.