لا بد لنا إذا أردنا أن نجدد صلة الأديب بالمجتمع العربي من أن نوضح أن بين أيدينا عنصرين اثنين هما المجتمع والأديب. أما المجتمع فهو هيئة معنوية لا تلمس باليد ولا تدرك بالنظر وإنما يشخصها الفكر المتخيل، وهذه الهيئة من الفخامة والقوة على ما نعلم، ولكنها، على روعتها وسعتها، تبقى قابلة لأن تلون وتدار ويؤثر فيها، وأما الأديب، فهو مثل زملائه المصلح ورجل الدين والعالم، قادر على التوجيه والإشراف. لأنه الباني والمحرك للمجتمع، بينما المجتمع هو المبني المحراد، والصانع في نظر الفكر المدرك أهم من المصنوع كما أن العلة أخطر من المعلول. وعلى ذلك آثرت أن أبدأ بتعيين أبعاد الأديب ومستواه وآفاقه، الروحية والفكرية، منتقلة بعد ذلك إلى تحليل ملامح لمجتمع العربي وتعيين نقائصه.
إن الحديث عن مكان الأديب في المجتمع ينبغي أن يرتكز إلى معنى قولنا «أديب». وليس يخفى أن هذا اللفظ. قد اتسع وأصبح مثقلا بمعان جانبية غير قليلة. ولسوف نعين هذه المعاني بإلقاء نظرة على المدلول الشائع اليوم لكلمة «أديب».
إن المفهوم الدارج لكلمة الأديب يهتم بالشكل أكثر مما يهتم بالمضمون. فما نكاد نذكر الأديب حتى يتبادر إلى الذهن العام أنه ذلك الذي ينظم القصائد أو يكتب القصص أو يؤلف المسرحيات. فكل من صنع هذا سمي أديبًا. ولا يكاد يتبادر إلى الذهن مطلقًا أن للأديب مكان البناء في المجتمع فهو يشيد ويقيم الأسس ويحدد الأطر.
وما القصيدة والقصة والمسرحية إلا أنماط شكلية يصوغ الأديب فيها أفكاره. وكانت النتيجة أن كثيرًا من أدبنا أصبح بلا مضمون اجتماعي مستفاد. وحسب كثير من الأدباء أن أنماطهم بهياكلها المترفة المعقدة تغنينا عن المدلول الاجتماعي الذي يحرك القيم والمعاني.
ومن تفريعات هذا المأخذ أن كلمة الأديب قد أفرغت إفراغًا من معناها الخلقي والروحي وقصرت على معنى بلاغي، فأصبح الأديب يعني من يكتب بأسلوب جميل فيه بلاغة التعبير وجمال الصورة والرمز. وبذلك أصبح ارتكاز الكلمة تعبيريًا لا روحيًا. وقد استشهد أحد أدبائنا متحمسًا بعبارة للفيلسوف الإيطالي بندتو كروتشه نصها: «الدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة الفن، بل مهمة الأديان وعلم الأخلاق».
والواقع أن كروتشه يخلط هنا بين الدعوة الوعظية إلى الأخلاق بالأساليب المباشرة وهي مهمة الأديان، وبين الأخلاقية المضنية التي يشف الأدب عنها دونما وعظ، وهي قمة الجمال في الأدب والفن.
ولو تأمل المتأمل لما وجد تعارضًا بين علم الجمال وعلم الأخلاق بل هما كل واحد لا تجزئة له.
والواقع المؤسف أن لفظ الأديب عندنا قد خضع لانحراف النظرية المجردة التي تندرج تحت عنوان «الفن للفن» فالأديب يعتبر اليوم صانع الجمال ومرقرق الرحيق في الألفاظ المسحورة لا يسأل عن الهدف الإنساني ولا عن المثال الأخلاقي. قال نزار قباني قبل حزيران ١٩٦٧
«الشعر زينة وتحفة باذخة كآنية الورد) ومعنى هذا ألا نرجو نفعا اجتماعيا من الشعر. والواقع أن الورد في الطبيعة ليس خاويا من النفع. وانما يتفتح الزهر لينتج البرتقالة الحلوة المغذية والوردة التي لا تأتى بثمرة ملموسة تنفع غذاء للنحل والطيور والفراشات.
وما من شيء في الطبيعة إلا كان له قبل جماله نفع ثابت. وحاشا للإنسانية أن ترضى لأديبها الموهوب أن يهدر طاقته الفكرية في كتابة صفحات جمالها عقيم. وهل يرضي ضمائرنا أن نكتب من الأدب ما هو حلية فارغة وترف بينما أهلنا العرب يبادون في الأرض المحتلة؟
1961*
* شاعرة وكاتبة عراقية «1923 - 2007»
إن الحديث عن مكان الأديب في المجتمع ينبغي أن يرتكز إلى معنى قولنا «أديب». وليس يخفى أن هذا اللفظ. قد اتسع وأصبح مثقلا بمعان جانبية غير قليلة. ولسوف نعين هذه المعاني بإلقاء نظرة على المدلول الشائع اليوم لكلمة «أديب».
إن المفهوم الدارج لكلمة الأديب يهتم بالشكل أكثر مما يهتم بالمضمون. فما نكاد نذكر الأديب حتى يتبادر إلى الذهن العام أنه ذلك الذي ينظم القصائد أو يكتب القصص أو يؤلف المسرحيات. فكل من صنع هذا سمي أديبًا. ولا يكاد يتبادر إلى الذهن مطلقًا أن للأديب مكان البناء في المجتمع فهو يشيد ويقيم الأسس ويحدد الأطر.
وما القصيدة والقصة والمسرحية إلا أنماط شكلية يصوغ الأديب فيها أفكاره. وكانت النتيجة أن كثيرًا من أدبنا أصبح بلا مضمون اجتماعي مستفاد. وحسب كثير من الأدباء أن أنماطهم بهياكلها المترفة المعقدة تغنينا عن المدلول الاجتماعي الذي يحرك القيم والمعاني.
ومن تفريعات هذا المأخذ أن كلمة الأديب قد أفرغت إفراغًا من معناها الخلقي والروحي وقصرت على معنى بلاغي، فأصبح الأديب يعني من يكتب بأسلوب جميل فيه بلاغة التعبير وجمال الصورة والرمز. وبذلك أصبح ارتكاز الكلمة تعبيريًا لا روحيًا. وقد استشهد أحد أدبائنا متحمسًا بعبارة للفيلسوف الإيطالي بندتو كروتشه نصها: «الدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة الفن، بل مهمة الأديان وعلم الأخلاق».
والواقع أن كروتشه يخلط هنا بين الدعوة الوعظية إلى الأخلاق بالأساليب المباشرة وهي مهمة الأديان، وبين الأخلاقية المضنية التي يشف الأدب عنها دونما وعظ، وهي قمة الجمال في الأدب والفن.
ولو تأمل المتأمل لما وجد تعارضًا بين علم الجمال وعلم الأخلاق بل هما كل واحد لا تجزئة له.
والواقع المؤسف أن لفظ الأديب عندنا قد خضع لانحراف النظرية المجردة التي تندرج تحت عنوان «الفن للفن» فالأديب يعتبر اليوم صانع الجمال ومرقرق الرحيق في الألفاظ المسحورة لا يسأل عن الهدف الإنساني ولا عن المثال الأخلاقي. قال نزار قباني قبل حزيران ١٩٦٧
«الشعر زينة وتحفة باذخة كآنية الورد) ومعنى هذا ألا نرجو نفعا اجتماعيا من الشعر. والواقع أن الورد في الطبيعة ليس خاويا من النفع. وانما يتفتح الزهر لينتج البرتقالة الحلوة المغذية والوردة التي لا تأتى بثمرة ملموسة تنفع غذاء للنحل والطيور والفراشات.
وما من شيء في الطبيعة إلا كان له قبل جماله نفع ثابت. وحاشا للإنسانية أن ترضى لأديبها الموهوب أن يهدر طاقته الفكرية في كتابة صفحات جمالها عقيم. وهل يرضي ضمائرنا أن نكتب من الأدب ما هو حلية فارغة وترف بينما أهلنا العرب يبادون في الأرض المحتلة؟
1961*
* شاعرة وكاتبة عراقية «1923 - 2007»