من الظواهر الشعرية المألوفة أن تصبح الطبيعة بمختلف صورها الحية والجامدة رموزا للشاعر: من هذه الصور البلبل، العندليب، الشلال المتساقط، الهواء (نسيما كان أم عاصفة)، الغابة، البحر، مصب النهر، وهي صور صوتية، وقد يكون الرمز صورة ساكنة مثل الوردة، الزهرة، الوادي، قمة الجبل. هذه الصور وغيرها استعملها الشعراء في مختلف العصور والبيئات، بحيث غدت عادية، لا تثير في القارئ الدهشة الفنية والجدة الجمالية، إلا إذا توفر لها شاعر مجدد، تخترق موهبته الأسمال التي رانت على تلك الصور، حتى يصل إلى جوهرها فيخرجه لنا على شكل صور تجمع بين طمأنينة المألوف وإثارة الجديد. لكن الشاعر الحديث قد يرمي بكل تلك الصور ويختار لنفسه صورا لم تخطر ببال أسلافه، وفيما يلي واحدة منها كما جاءت في قصيدة للشاعر الكندي المعاصر (مارك ستراند) بعنوان «التهام الشعر». الحبر يسيل من جانبي فمي سعادتي لا مثيل لها فقد كنت آكل الشعر عيونها تدور في محاجرها وسيقانها الشقراء تلتهب كشحنة كهربائية وأمينة المكتبة المسكينة تضرب برجلها وتبكي أمينة المكتبة لا تصدق ما تراه عيناها حزينتان وتمشي ويداها داخل فستانها إنها لا تدرك ما يجري حولها فعندما أقعيت على ركبتي لألعق يدها صاحت مذعورة *** القصائد قد اُلتهمت النور خافت والكلاب على درج القبو صاعدة أنا إنسان جديد أنبح وأزمجر نحوها أرقص فرحا في الظلام الكتبي حسب علمي، لم يسبق أن صور شاعر علاقته بفنه بهذه الصورة، ولكن إذا أمعنا النظر في القصيدة سنجد أن جذور هذه الصورة تمتد إلى أوائل الحركة الرومانتيكية في إنجلترا في العقد الأول من القرن التاسع عشر. إن أول ما يلفت النظر هو غرابة الصورة، الشاعر هنا إنسان غريب حقا فبدلا من أن ينتج الشعر، نراه يلتهمه على طريقة دراكيول مصاص الدماء، لذا فإن أمينة المكتبة وهي تمثل الجمهور غير الواعي لا تصدق ما تراه بل، ويصل بها الأمر إلى الهستيريا عندما تصل غرابة الصورة ذروتها.. الشاعر هنا من سلالة فنان (كولريدج) الذي يظهر في نهاية قصيدته «كوبلاخان» حيث نجده ساحرا مرهوبا تقذف عيناه شررا، وكل من مر أمامه يحصن نفسه بالنفث ثلاثا، بحركة دائرية فوق رأسه حتى يأمن تأثيره.. هذا ما نراه هنا في الكلاب التي تدور عيونها في محاجرها، والتي تلتهب سيقانها كشحنة كهربائية، وحيث إن أمينة المكتبة المسكينة لم تستطع اتقاء شر ذلك التأثير وكأنها سمرت في الأرض نراها تضرب الأرض برجليها وتبكي من الإحباط، مثل ما يفعل الضيف في قصيدة «أنشودة الملاح القديم» لكولريدج أيضا، وقد تسمر أمام الملاح بينما يروي ذلك الملاح قصته مع العلم بأن الملاح قد سمر ويتأثر عنه كما يفعل المنوم المغناطيسي. إن وجه الغرابة هنا هو تصوير الشاعر نفسه بالكلب، على الصعيد العادي (غير الشعري) نعرف أن الكلب لا يأكل الورق لكن ربما يكون أصل الصورة كلابا حقيقية قامت بهذه الحركات نفسها في مكتبة ما من مكتبات إحدى المدن التي عاش بها شاعر، أو قد تكون الصورة مكونة من عناصر متعددة تجمعت في لا وعي الشاعر من أماكن مختلفة وأوقات متباعدة ثم برزت متآلفة في صورة واحدة. ليس غريبا أن يقتات الشاعر الشعر، فلكي ينجح ينبغي عليه أن يقتات من رحيق الشعر، لكن هذا سر لا يعرفه إلا قلة من الناس، وربما يكون مقصورا على المبدعين أنفسهم، حتى الذين يعتقدون أنهم قريبون من عالم الإبداع كأمينة المكتبة هم في الواقع بعيدون كسائر الناس عن هذا العالم، فهو عالم يبدو قريبا لكنه أبعد مما يتصوره المتأدبون. لكن لماذا الكلب؟ هل هو الرمز المناسب لهذه المفارقة، القرب والبعد في آن واحد؟ قد يكون الكلب أكثر الحيوانات ألفة وفي الوقت نفسه من أشدها نفورا؟ وقد يكون الكلب هنا رمزا ميثيولوجيا لسر الإبداع الذي لا يتاح لكل راغب متطفل، فمن الملاحظ أنها تصعد من القبو من العالم السفلي حيث تسيطر (بروزربينا) وحيث ذهب (أورفيوس) بحثا عن حبيبته (يوريديس)، وعندما يقابل الشاعر هذه الكلاب يتحول هو إلى كلب، إلى مخلوق جديد تحت تأثير الشحنة الإبداعية، هذا التحول لم يحدث في البداية عندما كان يقتات على القديم من الشعر، كان يقتات فقط ويلتهم القصائد معتقدا أنه سيكشف بذلك سر الإبداع حتى أتى على كل ما وجد من شعر «القصائد قد اُلتهمت»، ولم يحدث أي شيء، وفجأة تظهر الكلاب، في لحظة خفت فيها ضوء العقل والمنطق، ليشع سر الإبداع، وكلما تكشف له ذلك السر انغلق على أمينة المكتبة، ففي البداية كانت «لا تصدق ما تراه»، وربما أشفقت على الشاعر المسكين، لكنها، في النهاية، أصبحت لا تدرك ما يجري حولها فهي في عالم يختلف تماما عن عالم الشاعر، وعندما يحاول الشاعر أن يقترب منها ويقربها إلى عالمه «فعندما أقعيت على ركبتي لألعق يدها»، لا تطيق الشحنة الإبداعية فتصبح مذعورة، وبالتالي تفقد الصلة بهذا العالم السحري، إذ نجده في نهاية القصيدة في قمة الفرح، لكنه فرح من نوع خاص «في الظلام الكتبي»، المفارقة هنا هي أن الظلام يحيط بهذا العالم الشعري وليس جزءا منه، إنه يحيط به كستار حديدي يمنع المتطفلين من دخوله واكتشاف أسراره. * قراءة ثانية * صادر عام 2000