عزيزي المثقف لا ترتبك من فوضى الشعبوية الذي تراه حولك، إنها نتيجة طبيعية لسقوط الإيديولوجيا السرورية الإخوانية، بمعنى آخر يجب أن تتعايش مع هذه الشعبوية، والعار كل العار أن تندمج معها أو تنساق لطبيعتها الأناركية في الظاهر والتوتاليتارية في الباطن، فحتى الشعارات الوطنية الراقية أصبحت على لسان الشعبوية (وطنجية) فجة.

من الطبيعي أن تصبح الشعبوية خطاباً عمومياً من فوضى الحواس، فلا ترتبك إذا رأيت أبطال وسائل التواصل من الشعبويين هم سادة المشهد، فهم سادته فعلاً ما دامت الموجة الشعبوية في بداياتها ولم تبلغ ذروتها بعد، والمهم أن تراقبها بعين حذرة، إياك أن تسقط أيها المثقف من علياء نخبويتك لتشارك الشعبويين فوضى الفكر والحواس، فتراهم يستخدمون المصطلحات الثقافية لإنتاج كل ما هو ثقافوي وشعبوي ومبتذل، وليس له امتداد فكري تراهن عليه لعقد واحد من الزمن على أقل تقدير، فكيف تراهن عليه كمشروع وطني يصبح واقعاً حضارياً أصيلاً في نسيج هذا الوطن.

الشعبوية تصنع حشودا لكنها لا تصنع إيديولوجيا عدا أن تصنع تفكيراً نقدياً حراً لا يستطيعه سوى النخبة مهما تنفج الشعبويون بأسماء أرسطو وسبينوزا وهايدغر وفوكو أو حتى الفارابي والكندي وابن رشد، وقد يسأل سائل: فلماذا تتعاطف مع الشعبوي ضد الإيديولوجي؟ لأن الشعبوي بطل من أبطال الفوضى الخلاقة التي تقوم على رماد هذه الإيديولوجيا المسماة الصحوة أو السرورية أو الإخوانية، فالشعبوية فطريات طبيعية تنمو في الفراغات الإيديولوجية، وهي حميدة ما لم تمس عقول النخبة الفكرية، فالشعبوية الناصرية أغلقت منافذ التفكير حتى في عقول كثير من المثقفين المصريين، ومثلها شعبوية السادات التي أخرجت مصطفى محمود في برنامج (العلم والإيمان) ليخرج الإخوان من السجون فيجندلونه في الميدان.

الشعبوية الحالية ربما تعقبها إيديولوجيا عصرية تسمح بميلاد الفردانية الحديثة كأعلى مراحل النظر العقلي والتفكر الإنساني، المدرك للعمق الفلسفي والتاريخي لكلمة (مواطن)، لكن البائس والمقلق أن هذه المنظومات تتكئ على مزاج شعبي يكاد أحياناً أن يكون كالثقب الأسود يمتص حتى أعتى المثقفين فردانية واستقلالا فكريا.

الشعبوية ديماغوجية بلا عقيدة حقيقية سوى الهتاف الساخر ضد كل ما يتحرك أو يتكلم، إنها طفولة الجماهير في ما قبل الإيديولوجيا، بينما الإيديولوجيا هي عقيدة الجماهير تعبد الزعيم الأوحد، بينما الفردانية تفكير نقدي ومعنى مستقل للإنسان في وجه العالم وضجيجه.

شكراً لكل الشعبويين في كل ملتقى للتواصل الإنساني (الافتراضي والحقيقي)، وأخص بالذكر الشعبويين لابسي رداء الإيديولوجيا الذين يتعمدون كل النخب في كل الاتجاهات بالانتقاص والتصيد والسخرية، لكن بعد أقل من عشر سنوات من الآن لن تكونوا سوى معتنقي إيديولوجيا جديدة مخلصين لها بلا عقل أو تفكير، عاجزين عن امتلاك (ملكة التفكير النقدي)، وإياكم أن تتوهموا أن سلوك الشعبوية دليل على وجود هذه الملكة الذهنية العالية، بل هي دليل على سخرية وهزل يشبه (الحذف بالحصاة الصغيرة) التي قد تفقأ العين لكنها أبداً لا تهزم عدواً ولا تحقق نصراً، لأنها قائمة على معارف ثقافوية علموية هشة ورخوة جداً.

أيها الشعبوي إن قررت مواصلة طريقك باسم الوطنية أو حتى باسم الدين فتذكر أنك مجرد أرضية من التراكمات الشعبوية، أيضاً ستحدث في يوم ما تغيراً نوعياً متطوراً لكن للأسف لن تكون أنت من رجاله أبداً أبداً.

الشعبوية هذه الأيام هي ضد الإيديولوجيا، فليكن ولنحتمل هذه الشعبوية ما دامت فطريات تأكل بشراهة هذه الإيديولوجيا الصحوية السرورية الآيلة للسقوط في الأنفس كما سقطت في الواقع.

لنحتمل هذه الشعبوية ولنستثمرها ضد حماقات الصحوة وصلفها الاجتماعي، ولنتجاوزها باتجاه مبادئ وطنية راقية تصنع المستقبل بوعي علمي يتجاوز أولئك المعلمين والمعلمات الذين ينتظرونك على باب المدير كي تغسل يديك وقدميك في ماعون يتقاسمون ماءه بعد ذلك خوفاً من العين والحسد.

أيها الشعبوي اصرخ واشتم يميناً وشمالاً وتصنَّع وطناً يناسب صراخك العالي في كل وجه بلا أدنى دراية أو إدراك سوى دفاعك الأعمى عن وطن لا تعرف معناه، كالأعمى يدافع عن أوصاف فيل لم يعرف منه سوى الخرطوم، فالمستقبل لسيادة القانون الذي يجعل المواطنة قيمة عليا لسبب حكاه العارفون بقولهم: (ما كانت طاعة الدولة فضيلة إلا لأنها امتثال للقوانين الحافظة للحقوق، وما كان «المواطن» في طاعته «نبيلاً» إلا لأن سلطة الدولة احترمت من خلال قوانينها كرامة مواطنيها، بضمان ما لهم من حق)، قد نقبل صراخك الآن لأننا قد نحتاج أوباش الشعبوية من (الوطنجية) ضد أوباش الإيديولوجيا من السرورية والإخوانية، وما عدا ذلك (صه) فالمواطنة ميلاد إنسان حر نبيل، وليست ميلاد عبد آبق يظن الحرية ثورة ضد لون آخر أو طبقة أخرى أو عرق آخر أو طائفة أخرى، فسيد الأحرار نيلسون مانديلا كالعنبر الفواح، وغاندي كالعود الهندي النفيس، فعن أي (طرش بحر أو قبيلة أو حزب أو تيار) يتنابز الشعبويون، كونوا فقط بحجم الوطن، فلسنا بحاجة لشعبوية القذافي في ألقاب جمهوريته (العظمى)، ولا بحاجة لإيديولوجيا المزايدة باسم الدين على كرامة ضمائرنا بين إخوان الخارج وسرورية الداخل، كونوا بحجم (المملكة العربية السعودية) وكفى.