الإثنين آخر يوم من ذي الحجة عام 1370 غادرت مكة المكرمة إلى القرية على متن سيارة نقل (لوري) حيث قابلت بعض أهالي القرية، ومنهم خالي أحمد بن حمدان العباير أمد الله في حياته، وهو رجل مودته واحترامه مبذولان لكل من يلتقيه أو يتعامل معه، وكذلك ابنه علي فهو شبيه بأبيه في الأخلاق الحسنة، وهو مربٍّ قدير، وله أبناء يعدون أمثلة في الخلق الجميل واكتساب العلم، أما صالح ابن خالي أحمد العباير، فهو أيضا مربٍّ فاضل ورب أسرة مثالي.

كان الركاب ينتظرون تحرك السيارة، وفي هذه الأثناء أقبل الأستاذ سعد المليص.

تحركت السيارة مع أصيل ذلك اليوم، وغمرني شعور بالحرية، ذكريات كثيرة ومتضاربة عن ثمانية عشر شهرا عشتها وأنا محبوس الحرية، محبوس الأنفاس، محدد الحركة، مجهد الجسد.

تملكتني مشاعر مخيفة ومثيرة، تمثلت في تساؤلات عدة: ماذا تعلمت؟ كيف كنت؟ وكيف أنا الآن؟ هل العودة إلى القرية قرار سليم؟ هل وضعت قدمي على طريق النجاح أم على درب الفشل؟ والنجاح: ما النجاح؟ هل المرحلة القادمة، مرحلة الدراسة، صعبة أم سهلة؟ وخرجت من أفكاري وتساؤلاتي على صوت المنادي: انزلوا.. هذه الشرايع.. تعشوا بسرعة حتى نمشي، والشرايع كانت محطة على طريق مكة الطائف، واليوم – نتيجة لتوسع العمران – أصحبت حيا من أحياء مكة المكرمة.

نزلنا في مقهى فسيح تتناثر في أرجائه كراسي مستطيلة للجلوس، وتستخدم أثناء الليل للنوم، وهي مصنوعة من الخشب وخوص النخيل، تناولنا العشاء، وقمت بخدمة الشاي باعتباري أصغر القوم. ثم تحركنا نحو الطائف، وعند منتصف الليل أمرونا بالنزول من السيارة، حيث تسلقنا ريع المنحوت، وهو جبل شاهق والسيارة تصعد خلفنا. توقفت السيارة عدة مرات إلى أن وصلت إلى قمة الجبل وعند الثلث الأخير وصلنا إلى محطة السيل الصغير، وهي عبارة عن مقاهٍ متناثرة وبضع دكاكين هنا وهناك. أمرونا بالنزول والنوم حتى يؤذن لصلاة الفجر، وكانت المفاجأة التي هزتني: هي البرد القارس والظلام الدامس والكراسي العارية من كل شيء وأنا لا أحمل معي فراش نوم ولا لباس نوم. ذهبت خلسة إلى عامل المقهى (القهوجي) وطلبت فراشا ولباسا فطلب ريالا ولم يكن معي قرش واحد فضلا عن ريال. قضيت تلك الليلة الباردة دون نوم إلى الفجر، حيث ركبنا السيارة وانطلقت بنا في أودية فسيحة ضاعفت حدة البرد.

أشرقت شمس الثلاثاء غرة محرم الحرام من عام 1371، لقد كانت شمسا جديدة، ليوم جديد وحياة جديدة، في الطائف نزلنا دارا مفروشة حيث تغدينا وبالطبع قمت بإعداد الطعام وتقديمه للمرافقين، وكنت سعيدا بهذا لأنني كما قلت أعيش يوما جديدا في حياة جديدة حرة، بعد العصر خرجنا من الطائف وعند منتصف الليل تقريبا حطينا الرحال تحت أشجار كثيفة، وقام معاون السائق بإيقاد نار كبيرة وصنع طعام العشاء، وقمت بإعداد القهوة والشاي، كان الجو باردا ولكني كنت أتحاشاه بالاقتراب من النار وعندما حان وقت النوم افترشت الأرض واتخذت حجرا وسادة. وكان الأستاذ المليص يصلي طويلا ويرفع يديه بالدعاء بعد كل تسليمة. ناداني وتظاهرت بأني نائم ثم صلى ودعا طويلا بعد الركوع وعندما سلم أعطاني جزءا من فراشه، وفي صمت افترشت، ولبست، وشعرت بالدفء، فارتحت ونمت.

قمنا لصلاة الصبح وبعدها بادرت بترتيب فراش الأستاذ وحملته بتصميم العارف بالجميل إلى السيارة، وقال لي: أنتظرك يوم السبت القادم.. لا تتأخر فنظرت إليه بإيجاب.

بعد عصر الأربعاء وصلنا قرية بشير ومنها على قريتنا بوادي العلي، عندما شاهدت قريتي تذكرت كل شيء فيها وعنها، ولكن مع ذكريات عن حياتي في مكة المكرمة في شمال الوادي التقاني أخي مسفر فرحا جذلانا. واختلطت قبلاتنا بالدموع وهرولنا إلى القرية حيث قابلت أمي، وبدموع سخينة حضنتني وتمتمت بكلمات لم أفهمها، سمعت منها اسم أبي، ثم أجلستني إلى جانبها، وساد صمت، وتبادلنا نظرات، وأيضا ابتسامات، وفجأة أمرتني بالذهاب لمقابلة كبير العائلة علي بن سعد أبو عالي (دغسان). استقبلني -رحمه الله- ببشاشة لم أعهدها فيه، وأمرني بالعودة إلى أمي وأن نلتقي بعد صلاة العشاء، حيث سألني عن بعض تفاصيل حياتي في مكة، وعرف مني عزمي على الالتحاق بالمدرسة وبارك ذلك.

«هروب إلى النجاح»

1431