لقد أبعد الرحالون فيما طافوا فتغيبوا السنوات الطوال، حتى إن بعضهم غادر موطنه في سن الفتوة ولم يعد إليه إلا هرما، يجر خلفه من أولاده فتيانا وفتيات!.

قطعوا المسافات الشاسعة إلى آخر حدود الصين، وأواسط بلاد التبت، ومخروا البحار في سفن شراعية مهلهلة الأوصال، حتى انتهوا إلى أكثر جزر اليابان والفلبين بعد جاوة وسومطرة. وقيل إن بعضهم انتهى إلى أول شاطئ تتصل به أميركا اليوم.

وتوغلوا في إفريقيا، شواطئها وصحاريها وغاباتها المخيفة وبحيراتها المهولة، ومضوا في جميع القارات حتى عرفوا كثيرا مما كان مجهولا يومها من بلاد أوروبا.

ولم تكن عدتهن في هذا إلا بغالا أو جمالا تحمل أثقالهم إلى حيث تستطيع، فإذا بدا لهم من ضعفها ما يخشون واصلوا سيرهم على الأقدام، فصعدوا الجبال الشاهقة، وخوّضوا في المهاد المخيفة.

وقد قابل أكثرهم في رحلاتهم قبائل لم تستأنس بعد، منهم آكلو لحوم البشر، ومنهم قُطّاع الطرق والقراصنة، فلم تمنعهم هذه الأخطار عن مواصلة سيرهم.

ولقد تعرّض بعضهم لشكوك المستبدين وريبتهم، كما تعرض بعضهم للسجون والجلد، وتعرض بعضهم للقتل والاغتيال، فلم تحل كل هذه دون بغيتهم، ولم تقلل من نشاطهم أو عزيمتهم، وبذلك أسدوا إلينا معارف لا تقاس بها معارف، فقد كانت نواة طيبة لكل ما نعرفه اليوم من علوم الجغرافيا، وكانت بابا دخلت منه أوروبا على كثير مما وعته مجلداتهم عن أمم الأرض وتواريخها.

فلو جُبل هؤلاء على ما جُبلنا عليه من الطراوة، واستسلمنا له من حب القرار وتحاشي الصعاب، لظلوا في بيوتهم لم يغادروها، ولما أنتجوا لتاريخ البشرية ما أنتجوه من معلومات.

وانتقلت هذه البسالة الممتازة من أجدادنا الأبطال إلى أمثالهم من أمم الغرب اليوم. فنحن ما نزال نسمع من أخبار المغامرين ما يثير الدهشة ويدعو إلى العجب.

لم يتركوا صحراء قاحلة ولا بيداء شاسعة ولا مجاهل مغمورة، حتى قطعوا فيافيها وطرقوا مسالكها، لا يمنعهم جوع ولا عطش، ولا تحول دونهم صعوبات مهما جل شأنها.

ومن الغريب أن أكثرهم ينتمون إلى أسر مترفة، لم تألف قسوة الحياة وشظف العيش، ولكنها في نظرهم هواية يتلذذون فيها بما يقاسون من متاعب، وما يصادقونه من نصب، ولا مانع لديهم من أن يركبوا على غايتهم الدواب الخشنة والمطايا المتعبة، وأن يواجهوا القرّ والحرّ، ويتعرضوا للحيوانات الكاسرة والغابات الموحشة، وللقبائل المتوحشة.

أوغل بعضهم في إفريقيا واخترق صحاريها التي لم تطرقها قدم، وقابل من أهوالها ما لا يتحمله جلد، وخرجوا من ذلك بفضول مسهبة أفادت قومهم، وفتحت عيون حكوماتهم على حقائق كان يجهلها حتى سكان القارة أنفسهم!.

وأوغل بعضهم في أستراليا والهند والصين، فانتهوا إلى آفاق لا يتصورها خيال، واكتشفوا من طبائع الأرض والجبال والأنهار فيها ما لم تتيسر معرفته للسكان أنفسهم، وبذلك خدموا بلادهم خدمات جليلة القدر عظيمة النفع، ومشى رائدوهم في بلاد العرب فلم يتركوا شبرا إلا ذرعوه، ولا صحراء إلا جابوها، ولا جبلا إلا صعدوه، ولا مغارة إلا كشفوها، وانتهوا من تلك إلى بحوث لم يكتبها عربي من أبناء اليوم.

ومشى بعضهم إلى المناطق الثلجية التي لا يقوى على احتمال صقيعها إنسان، فارتادوها ودرسوا طبائعها وعادات أهلها، واتصلوا إلى ما يقرب من القطب الشمالي فمسحوا أراضيه، وكتبوا عنها ما لا يخطر على عقل بشر.

وهم لا يزالون يعقدون العزم على التوغل في القطب الجنوبي، واكتشاف ما يهمهم اكتشافه في مناطقه السحقية.

وتعدّت جرأتهم إلى قياع البحار وأعماق المحيطات، وبطون الأراضي وأجواف البراكين الباردة!.

وإذا أردت أن تعجب فاعجب لهذه المغامرات الجريئة القاسية التي لم تقتصر على الرجال وحدهم، بل شارك في كثير منها نساء دقيقات الخصور، رقيقات الأطراف سائلات الأعطاف.

إنهن نسين رقتهن وضعفهن وحاجتهن إلى حماية غيرهن، وخاطرن في بسالة منقطعة النظير نحو غاياتهن بقلوب لا تعرف الخوف.

أيليق بنا، ونحن نسمع في كل مناسبة من أخبار هؤلاء المغامرين والمغامرات ما يدعو إلى الاستهانة بالأخطار، أن نجمد في بيوتنا على ما تعوّدنا.