الظهران كانت - في عرف مجتمع سبعينيات القرن الماضي- المدينة الحالمة و«الفاسدة»، في آن واحد. الحالمة عند القليل والفاسدة عند الكثير، برغم أن أولئك الكثير، لم يتسن لهم رؤية الظهران إلا من خلال الأساطير التي كانت تنسج حولها نتيجة الفكر الجمعي السطحي السائد في تغليب مقولة «اللي ماهو على دينك ما يعينك»!

الظهران عاصمة النفط التي كان إنسان السبعينيات السعودي يعتقد أنها موطن للفساد بكل أنواعه، وأعظم تلك المفاسد، الاختلاط بالنصارى، ومشاهدة النساء المتبرجات. هكذا كانت الصورة النمطية في ذلك الحين والذي يقدمه الخطاب المؤدلج، وتدعمه الثقافة الشعبية المنغلقة.

كانت الظهران تفتح ذراعيها لتدريب الشباب السعودي، وتقدم لهم الوظائف الجيدة والمهارات العالية والمرتبات والمميزات، علاوة على إمكانية الابتعاث الخارجي لأميركا، والتحصيل الدراسي الجامعي. وبرغم هذا إلا أن السواد الأعظم من أولياء الأمور، آنذاك، يرون سواد الوجه في التحاق ابنهم بأرامكو، مهما كانت المغريات، باستثناء سكان المنطقة الشرقية.

لن أحدثكم عن الجهد المضني الذي بذلناه، نحن الأصدقاء الثلاثة أبناء الحي الواحد «منفوحة» في سبيل إقناع الأهل بالالتحاق بالشركة.

كنا، كملتحقين جدد بالظهران، في عمر الزهور، البعض منا دون العشرين عاماً، ومنا من هو في الخامسة عشرة، غير أننا بالفعل كنا متأثرين بالأفكار التي تم حشو عقولنا بها، من حيث الفساد في أرامكو عموماً، وفي الظهران تحديداً. بالفعل، شاهدنا في الظهران، النصارى والنساء المحجبات وغير المحجبات لكننا لم نشاهد ما قيل عن الفساد والخمور والمراقص.

رأينا النساء في الظهران يعملن مع الرجال في اختلاط مسؤول، دون تعد على المساحات الشخصية من الطرفين. رأينا أيضا النصارى لكننا لم نشاهد منهم إلا السلوك الحميد الراقي المغاير تماما لما سمعناه وما تم تحذيرنا منه!

كنا، نحن المستجدين القادمين من خارج المنطقة الشرقية، نعيش قلقاً شديداً وصراعاً فكرياً متجذراً بين ما نعتقده من تصورات سلبية وأحكام مسبقة عن تلك البيئة الجديدة، وبين ما نراه فيها من سلوكيات راقية وتعامل إيجابي.

كان الاعتقاد الباطن المتأصل لدينا - نقلاً عما سمعناه - أن أولئك، هم في ميزان واحد، من حيث نصب العداء لنا ولمعتقداتنا، فهم أعداء يكيدون لنا ويتآمرون على المسلمين عامتهم وخاصتهم، لذا فإن التوصيات كثيرة ومنها «كن حذرا ولا تأمنهم على حياتك بالمرة»، الأمر الذي شكّل لنا رعباً داخلياً، رغم ما نعيشه من الأمان الخارجي الذي نلمسه من الجميع.

لاحقاً، وبعد مزاملة ومعاشرة مع النصارى- وجدنا أن تلك الأمور مجرد أساطير من وحي الخيال الموغل في التزمت الديني والتشدد المجتمعي، ولا حقيقة لها إلا ما يخص السلوك الشخصي لبعض الأفراد بغض النظر عن مذاهبهم ودياناتهم وجنسياتهم.

وجدنا الزميل الموظف المسيحي الأميركي والبريطاني، الفلبيني والهندي وغيرهم، أناسا لطفاء جداً، ويعاملون الجميع معاملة حسنة صادمة لقناعاتنا.

وجدنا كذلك، أن السعودي، بغض النظر عن مذهبه الديني، مواطن يشاركنا حب الوطن وقيادته. وجدناه يهتم بتعليمه وبناء ذاته وكذلك بناء الوطن وتنميته، يشارك السعودي الآخر الأخوّة الصادقة، ويسانده لتجاوز بداية المرحلة الانتقالية الحاسمة في توطين الشركة، وهو البرنامج الذي حقق نجاحاً خلاقاً على يد ذلك الجيل.