(الدولة العربية الحديثة) ليست تقليدا أعمى لمنظومة غربية، ولا ارتكاسا تاريخيا لزمن يرى في هروب العبد (الإنسان) من سيده (الإنسان) إثما دينيا واجتماعيا يوجب اللعن والعقوبة، لكنها منطلقات نجدها في تراثنا العربي متمثلة في مفهوم دولة المدينة من (التمدن، المدنية) التي نرى إرهاصاتها عند الفارابي وابن خلدون وغيرهما، فيما لو جَدّ الباحثون في تأصيل مفهوم (الحضارة) وفق منطلقات عصرية، بعيدا عن اشتغالات التجديد الديني التي يدعو فيها البعض إلى استنبات إسلام سياسي (أذكى من سابقه). وسأحاول محاورة هذا الطرح مع اعترافي المسبق بظني السيئ في أغلب عمليات التجديد الديني في العصر الحديث، لما تحمله من مضامين أيديولوجية، ترضخ لمتغيرات سياسية واقتصادية ليست بحاجة لأي دعوة دينية بقدر ما الواقع يفرضها. وباستعراض المحرمات الفقهية التي قاوم بها التقليديون كل جديد، نكتشف كم أن المسألة تعود في جذرها إلى بنية محافظة في ذات الشخص، تتغير بتغير ظروفه الجغرافية والاقتصادية عبر تكرار ممل لحالة الشافعي وفتاواه ما بين العراق ومصر.

التجديد الديني ليس له أي لازم إلا لدى من يريد الإمساك بالخطاب الجماهيري ليستعيد استنبات مظاهر جديدة لحركات الإسلام السياسي، وكل دعوة للتجديد الديني لا تدعو في أدبياتها إلى تعزيز الفردانية ولو من باب الحقيقة الدينية (كل نفس بما كسبت رهينة) و(كلهم آتيه يوم القيامة فردا)، وغيرها من آيات تدعم الفردانية الدينية، في هذه الحالة من الدعوة الدينية لتعزيز الفردانية فقط يمكن لأي متابع أن يطمئن أن اجترار تجربة الإسلام السياسي لن تتكرر، فالتجديد ليصبح (إسلام كول) يتماهى في سبيل إنشاء خيوط عنكبوته الجديدة في سبيل صراعه السياسي، باسم الدين (الحداثي) الأفضل أن تنتهي، فكل خطاب سياسي باسم (الإسلام الأصولي) أو (الإسلام الحداثي) هو مناورة سياسية لبست ربطة العنق فوق ثوب العمامة المرقع.

لماذا لا أثق في الإسلام السياسي؟ لأنه ببساطة ادعاء نبوة بمسميات مقبولة اجتماعيا، لكنها في بنيتها الداخلية تحمل نفس مستويات العصمة التي يحملها الأنبياء، فقد رأينا أنه يجوز للإخوان المسلمين باسم الدين ما لا يجوز لغيرهم، فكأنما بيدهم حقيقة الوحي التي انقطعت بموت النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يبق منها إلا اجتهادات في التفسير والتأويل، فحتى المدرسة السلفية التقليدية تضطر لمثل هذا التفسير والتأويل، وإلا تحولت إلى مدرسة ابن حزم الظاهري دون أن تشعر، خصوصا مع إجماع السلف على مسألة الإمامة القرشية، مع عطش سلفي لمفاهيم الحاكمية الإخوانية.

الإسلام السياسي دعوة للتجمع الجماهيري تنطلق ببراءة من المسجد لتنتهي بثورة على أبواب الوزارات والمؤسسات الحكومية، فعن أي تجديد ديني يتحدث دعاة الإسلام السياسي؟ الشرط الوحيد الذي يخرج الإسلام السياسي من منطق التلاعب الديني في سبيل خدمة السياسة إلى منطقة التجديد الحقيقي أن ينشغل بمعطيات (الفرد المسلم) كإنسان فرداني، وليس بمعطيات (المجتمع المسلم)، فكل معطى في التجديد الديني يحاول الانشغال بأطروحات (المجتمع المسلم) فهو يريد صناعة لعبة سياسدينية جديدة أكثر مرونة ولياقة من سابقتها، بينما التجديد الديني الحقيقي ينشغل بفردانية المسلم في خلاصه الروحي دون أن يرتطم بمعطيات فصامية تفصله عن واقع (مجتمعه الصيني) إن كان في الصين، أو مجتمعه الأميركي إن كان في (أميركا)، أو (مجتمعه الماليزي) إن كان في ماليزيا، أو (مجتمعه الهندي) إن كان في الهند... إلخ.

ولهذا فالتجديد الديني (الفرداني) هو ما يجعل المسلم يشفى من فوبيا الهوية الذي يجعله يعيش حالات الغيتو عاجزا عن الفعالية التي تجعله يشارك في بلاد علمانية تضمن له الوصول لأعلى المناصب السياسية بصفته حاملا للجنسية البريطانية مثلا، مؤمنا أن ولاءه للتاج البريطاني يفوق ولاءه لأي رابطة اجتماعية خارج دولته بريطانيا. وعلى هذا قامت قبل قرون دولة الأندلس التي استوعبت اليهود أكثر من استيعاب المسيحيين لهم في عصورهم المظلمة، التي تخلصوا من ظلامها ودخلها غيرهم بكبرياء أعمى وعنجهية حمقاء.