يمكن تخيل الكتابة الإبداعية كخلايا الجسم، حيث تبدأ من خليتين (البويضة والنطفة) تتكاثران إلى خلايا، ثم لا بد من الموت. وهذا الموت لم يأت بإرادة الخليتين، لكنه جاء من اتحادهما وانقسامهما المتعدد إلى خلايا وحملهما لمشكلات صحية، وهي بهذا تشبه العقدة الروائية بحبكتها حتى النهاية التي لا بد أن تأتي من مشكلات في حياة هذه الخلايا نفسها. والمقالة الإبداعية أيضاً صناعة لها حكايتها الخاصة، فربما تتفتق حبكتها عن نهاية حقيقية أو لا. وأعني بالحقيقية تلك التي تفاجئ كاتبها بأنها ربطت أوائلها بأواخرها من نفسها، أي تلك التي تشبه الخلايا المنقسمة التي تموت في الأخير، لأنها حملت مشكلاتها لا مشكلات غيرها. وقد تتعقد حبكة المقالة وتستغلق، لأن ثمة شيئًا في الحكاية يعوق انسيابها. نعم أعني أن المقالة مثل القصة أو حتى الرواية من هذه الحيثية ولكن لكل بناؤه وعوالمه.

ولمقاربة هذا الموضوع أتذكر رواية الغرف الأخرى لجبرا إبراهيم جبرا، تلك الرواية المزمنة بيوم واحد، لكنها استغلقت فعلًا حتى على كاتبها وطال زمنها الفعلي إلى يومنا هذا وسيطول ربما إلى أن يرث الله (الروايات) ومن فيها...! ومع أن جبرا إبراهيم وضع لها نقطة النهاية وبيعت في الأسواق إلا أنها رواية لم تنته! لا أعني النهايات المفتوحة، بل أعني فعليًا أنها رواية لم تكتمل، لأنها رواية مصابة بانسداد أمعاء الكتابة، ذلك المرض الذي عجز عنه الطب الفلسفي. الرواية تحكي عن رجل بلا ذاكرة، تأخذه امرأة لا يعرفها من ميدان المدينة، لتذهب به إلى مبنى لا يعرفه، لكنه يفاجأ حين دخل المبنى بأن الجميع يدعونه بالدكتور نمر علوان! ويؤشرون على القاعة التي سيلقي فيها محاضرته! ولما دخل القاعة اتهمه بعض المشاغبين بأنه يزور شخصيته، ثم تتعدد شخصياته وأسماؤه بحسب بطاقاته، فمرة نمر، ومرة عادل، ومرة ثالثة فارس. نلحظ أن الرواية لم تبدأ من خليتين، بل من خلية معاقة وهي نسيان (اسم العلم)، مما يعني نسيان دخوله إلى العالم، أو هو لم يدخل فعلاً، ولكن ذات الراوي العليم أدخلته بالقوة لصناعة رواية تبدأ من العدم، علامة ذلك أن الرواية مكتوبة بصيغة ضمير المتكلم، والمتكلم لا يعرف نفسه، إلا من خلال قوله إنه وضع يده في جيبه فأخرج البطاقات المتنوعة (والهويات)! أذكر أن الناقد العراقي الغانمي قال معلقًا على هذا الإشكال: إن أزمة الهوية الشخصية تنعكس على أزمة الحبكة، إذ كيف تنتهي رواية من هذا النوع؟! ومراده أن الرواية ستظل بحثًا عن الذات لا يؤدي إلى شيء، فالمؤلف لم يستطع أن يخرج بطل حكايته من السبات النفسي إلا بإدخاله في آخر، وهكذا بلا نهاية. لهذا أتذكر أن أحد الذين علقوا على الرواية في ندوة في الرياض، قال: «نهاية محبطة للمتلقي!» فقلت له: لكن هل (بدأت) فعلًا، حتى تنتهي نهاية غير محبطة؟!

التفاتة:

رواية الغرف الأخرى بديعة من حيث استحضارها عبثية كافكا بانتشاء وسردية تائهة، ولكن المقالة ذكرتها لتقول إن انسداد الأمعاء الكتابي يولد من داخل خلايا الإبداع، ومهما حاولت الذات العليمة أن تنهي الحبكة من خارجها ستفشل في إقناع عين الجمال الداخلي، لهذا ظلت رواية الغرف الأخرى بلا نهاية، وقد كان هذا شرطها المخفي؟! هذا كله يعيد القول إلى صنعة المقالة الإبداعية وطرائق كتابتها، أو يعيد الحنين إلى المقالة حين كانت إبداعًا، وقبل أن يمتهنها سوق الأسهم.