في مقال اليوم، نستعرض مفهوم الردع الإستراتيجي، وهو مصطلح يتم تداوله بكثافة في الحوارات العامة والإعلامية، لكن كثيرًا ما يساء فهمه واستخدامه.

يعرف الردع بتعريفات عدة تغيرت مع الزمن والمكان ولكن منها: استخدام للتهديدات (الضمنية أو الصريحة) أو القوة المحدودة التي تهدف إلى ثني جهة أخرى عن اتخاذ إجراء ضدك (أي الحفاظ على الوضع الراهن). وأيضًا يمكن تعريفه بأنه استخدام التهديدات بقوة محدودة من قبل أحد الأطراف لإقناع طرف آخر بالامتناع عن البدء في مسار عمل ما. وأفضل في هذا المقال تعريفًا مبسطًا سهل الفهم للجميع وهو «التهديد بالعقوبات والوعد بالمكافأة لكي يمنع الخصم من اتخاذ إجراء حسابًا للعواقب».

كانت مفاهيم الردع موجودة منذ القدم فهي موجودة في الحضارات اليونانية والرومانية والصينية القديمة، لكنها كانت تختلف بحسب السياق الثقافي والسياسي لكل حضارة.

في الحضارة اليونانية القديمة، كانت فكرة الردع مرتبطة بشكل كبير بالقوة العسكرية والتحالفات بين (المدينة- الدول) على سبيل المثال، كانت الأساطير اليونانية تحتوي على قصص تظهر القوة والشجاعة كوسائل لردع الأعداء، مثل قصة أخيل في الإلياذة

أما في الحضارة الرومانية، فقد كان الردع يتمثل في استعراض القوة العسكرية والتوسع الإمبراطوري. كان الرومان يستخدمون الردع للحفاظ على النظام والسيطرة على الأراضي المحتلة، وكذلك لمنع التمردات والغزوات.

في الحضارة الصينية القديمة، كانت إستراتيجيات الردع تتضمن الدبلوماسية والحرب النفسية، وكذلك القوة العسكرية. على سبيل المثال، كتاب «فن الحرب» لسون تزو يتضمن مبادئ إستراتيجية تعتمد على الردع والتلاعب بالعدو.

هذه الحضارات استخدمت مفاهيم الردع للحفاظ على السلام والاستقرار، ولكن بطرق تعكس فهمها الخاص للقوة والسياسة.

يتحقق الردع، وفقًا لسون تزو و«فن الحرب»، ليس فقط من خلال الوجود الفعلي للجيش، ولكن أيضًا من خلال التكتيكات النفسية وفن الخداع. ينادي باستخدام الاستراتيجية لإخضاع العدو دون قتال، مما يوحي بأن الفن الأعلى للحرب هو إخضاع العدو دون معركة. يعتمد هذا النوع من الردع على خلق انطباع بالقوة والاستحالة، وبالتالي يثني العدو عن الدخول في صراع.

ويجادل مكيافيلي بأن الحاكم، يجب أن يكون على استعداد لاستخدام القوة والخداع للحفاظ على السلطة وردع الأعداء. يقترح أنه من الأفضل أن يُخاف منه الناس بدلاً من أن يُحبوه، إذا لم يكن بالإمكان الجمع بين الاثنين، لأن الخوف هو وسيلة أكثر موثوقية للحفاظ على السيطرة وردع المعارضة ويتعلق الردع عند مكيافيلي بإظهار القوة والاستعداد لاستخدامها، مما يضمن أن الخصوم المحتملين يتم ردعهم عن تحدي سلطة الحاكم.

تصنف أنواع الردع بناء على خصائصها وحالاتها، فمنها «الردع العام والخاص»، وأيضاً هناك «الردع الموسع والردع المباشر»، وهناك الردع «طويل المدى والفوري»، لكن يعتبر الردع بشكل عام ناجحًا عندما يمتنع الفاعل أو الخصم الذي قد يتخذ إجراءً ما عن القيام بذلك بسبب العواقب التي يُعتقد أن الرادع سيتخذها وأيضًا ويُعتبر «الردع الفوري» ناجحًا عندما يمتنع الطرف الذي يفكر جديًا في استخدام القوة أو العمل العسكري الفوري عن القيام بذلك ويفرق الخبراء بين «الردع الموسع» (حماية الحلفاء) و«الردع المباشر» (حماية النفس).

وترى نظرية الردع العقلاني أنه سيتم ردع المهاجم إذا اعتقد أن:

«احتمال قيام الرادع بتنفيذ التهديد الرادع مضروبًا بالتكاليف في حالة تنفيذ التهديد» مقابل «احتمال قيام المهاجم بتنفيذ الإجراء مضروبًا بفوائد التي سيحصل عليها من الإجراء» هي في النهاية حسابات ربح وخسارة، إذا اعتقد الخصم أن تكلفة قيامه بعمل ماء ستكون باهظة ولا تستحق فوائد هذا العمل فإنه سيتوقف عن فعل ذلك.

في العصر الحديث، اكتسب مفهوم الردع أهمية خاصة خلال الحرب الباردة، حيث تم تطوير نظريات الردع النووي كوسيلة لمنع الصراع النووي بين القوى العظمى.

وأصبح الردع الإستراتيجي والعسكري جزءًا أساسيًا من السياسة الدفاعية للدول، ويتطلب تقييمًا دقيقًا للتهديدات والقدرات والنوايا لضمان الأمن والاستقرار الدوليين.

الردع الإستراتيجي الحديث أصبح إلى حد ما استخدام القوة المحتملة لإقناع العدو بتجنب القيام بأعمال معينة قد تكون ضارة بمصالح الطرف الآخر ويشمل الردع العسكري تحضير القوات والإمكانيات لمنع أي فعل عدائي وتوفير الدلائل للعدو بأن أي تهديد للأمن القومي سيقابل برد قوي وحاسم

من أمثلة أنواع الردع الحديث:

1. الردع النووي: يعتمد على القدرة على استخدام الأسلحة النووية كوسيلة لمنع العدو من الهجوم.

2. الردع التقليدي: يستخدم القوات المسلحة التقليدية والأسلحة لتحقيق الردع.

3. الردع غير المتماثل: يتضمن استخدام تكتيكات واستراتيجيات غير تقليدية لمواجهة قوى أكبر وأكثر تقدمًا.

أما استراتيجيات الردع العامة: فتشمل تطوير السياسات والخطط التي تضمن الحفاظ على الأمن والاستقرار، وتشمل: الردع بالعقاب ويهدف إلى تهديد العدو بعقوبات شديدة في حالة العدوان أما الردع بالإنكار فيركز على جعل أي هجوم محتمل غير مجدٍ أو مكلف للغاية بالنسبة للعدو.

أما تكتيكات الردع، فهي متعددة ومن أمثلتها: المناورات العسكرية لإظهار القوة والاستعداد للدفاع والتحالفات الإستراتيجية لتعزيز القدرات الدفاعية والردعية والدبلوماسية القوية لإقناع العدو بأن التكاليف ستفوق الفوائد في حالة الصراع والنفوذ الاقتصادي وإقناع الخصم بتعرضه لخسائر وعقوبات اقتصادية إذا بدأ بالإجراء.

مع تطور الأسلحة والتكنولوجيا، تطورت أيضًا نظريات الردع لتشمل الردع غير المتماثل والردع السيبراني، التي تعتمد على إستراتيجيات وتكتيكات جديدة لمواجهة التهديدات المعاصرة هذه التعريفات والممارسات تُظهر كيف أن الردع الاستراتيجي يظل مكونًا أساسيًا في العلاقات والسياسة الدولية.

عادة ما يطلق على مكونات الردع 3 (سي)، وأنا أفضل أن أجمعها في بوتقة واحدة 6 (سي) وحرف (سي) بالإنجليزية لأن كل العناصر الستة تقريبًا تبدأ بهذا الحرف بالإنجليزية

(Certainty, Celerity, S(c)everity- chastisement(, Capability, Commitment and Communication )

اليقين: احتمال مؤكد تنفيذ العقاب أو الرد في حالة ارتكاب الفعل المحظور أي إنه التأكيد على أن العواقب ستتبع الفعل.

السرعة: السرعة التي يتم بها تنفيذ العقوبة أو الرد بعد اتخاذ الإجراء غير المرغوب فيه. وكلما كانت الاستجابة أسرع كان الردع أكثر فعالية.

الشدة: شدة أو شدة العقوبة أو الرد. وكلما كانت العقوبة أشد كان تأثير الردع أكثر فعالية.

القدرة: يشير هذا إلى القدرة الفعلية على تنفيذ التهديد أو الدفاع ضد تصرفات الخصم. فهي تنطوي على امتلاك القوة العسكرية اللازمة، والوسائل التكنولوجية، والموارد اللازمة لتكوين تهديد رادع موثوق.

الالتزام: هو العزم الواضح على متابعة التهديدات في حالة فشل الردع. ويمكن إظهار ذلك من خلال الإجراءات السابقة أو البيانات السياسية أو غيرها من أشكال الإشارات التي تشير إلى الاستعداد لاستخدام القوة إذا لزم الأمر.

التواصل: يضمن التواصل الفعال أن يفهم الخصم الرسالة الرادعة بشكل واضح. فهو ينطوي على نقل النوايا والقدرات والالتزامات بطريقة لا لبس فيها ولا تترك مجالًا لسوء التقدير أكبر

هناك علاقة وثيقة ومرتبطة بين 3 مفاهيم مهمة (الردع وتوازن القوى الاستراتيجي ونظرية الواقعية الجديدة):

العلاقة بين هذه المفاهيم تكمن في أن الردع يُستخدم كأداة للحفاظ على توازن القوى، الذي بدوره يُعد جزءًا أساسيًا من النظام الدولي الذي تصفه الواقعية الجديدة. الردع يمكن أن يساعد في منع الدول من القيام بأعمال قد تخل بتوازن القوى وتؤدي إلى الحرب وفي الوقت نفسه، توازن القوى يمكن أن يعزز الردع من خلال تقليل احتمالية أن تشعر الدولة بأنها قوية بما يكفي لتحدي النظام الدولي، وتقدم الواقعية الجديدة إطارًا نظريًا يفسر كيف يمكن للدول أن تستخدم الردع وتوازن القوى لتحقيق الأمن في بيئة دولية تنافسية وغير مركزية

ودائمًا السؤال يطرح ما هي أفضل نظرية تشرح العلاقات الدولية في الشرق الأوسط؟

إن أفضل نظرية تشرح العلاقات الدولية في الشرق الأوسط هي الواقعية الجديدة «نيوريالزم»، ولست أذكر ذلك من باب أنها مدرستي بل الأحداث والوقائع التاريخية تؤيد ذلك، وهناك اقتناع كبير من المفكرين بأن الشرق الأوسط هو مثال تطبيقي لنظرية أستاذنا الراحل كينيث ولتز الأب الروحي لنظرية الواقعية الجديدة.

ونظرًا لضيق المجال والمقال فلم نتكلم عن عدة أمور أساسية في الردع الحديث رغم أهميتها مثل الردع النووي والضربة الثانية، وثلاثي الردع الصاروخي، وأيضًا واحد من أحب المواضيع وهو الردع العسكري التقليدي الحديث.