أمام العالم العربي في ظل هذه التحولات الحاسمة والقاطعة أحد أمرين: إما أن يستغل هذه الظروف الجيوسياسية والاقتصادية من جهة ويمهد لوجود ضمن شرق أوسط جديد بمعاييره هو لا بمعايير سايكس بيكو ثم كيسنجر ثم ألكسندر هيج، وأخيرا بمقاييس باراك أوباما، يساعده في ذلك انفكاك الارتباط الجيني بين شاطئي الأطلسي أي بين أميركا وأوروبا، واتجاه أميركا شرقا باتجاه الدول المطلة على بحر الصين والتي بدأ أول مظاهرها في الحرب التجارية مع الصين، وكذلك القيمة الإستراتيجية الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لكل من أميركا في الغرب، والصين واليابان والهند في الشرق، وهي الدول المحورية في العقد القادم إلى 2030.

أو يدخل العالم العربي في خيبات أخرى فيتجاوزه التاريخ والجغرافيا وتتجه الصين إلى آسيا عبر المحيط الهادئ، وتصل إلى إفريقيا عبر طريق الحرير البحري وإلى أوروبا عبر طريق الحرير البري ضمن مبادرة الحزام والطريق.

لم تعد الوحدة الاندماجية حلّاً في عصرنا الحاضر وكل التجارب العربية كانت مخيبة لآمال شعوبها، كما أن الاتحادات والتحالفات لم تعد مجدية، والتجربة الأكثر بريقاً في العالم، وهي الاتحاد الأوروبي، بات مصيرها مقلقا لدى أصحابها بعد تراجع الديمقراطية الليبرالية في أوروبا قاطبة نتيجة تزايد شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء أوروبا، والتي حققت مكاسب انتخابية في أكثر من 15 من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة، وفازت بأصوات كبيرة في إيطاليا وبولندا وسلوفينيا وسلوفاكيا وألمانيا والدنمارك والسويد وإستونيا وغيرها.

وخطورة هذا التحول تكمن في أنه ينعش بطريق مباشر وغير مباشر التغيرات القومية في أوروبا الوسطى والشرقية المعارضة للنظم الليبرالية، كما يضعف أحزاب الوسط في العمق ويدفعها لتبني خطاب اليمين، وهو ما يقوض في النهاية الاتحاد الأوروبي من الداخل، والتصور الذي طرحه بعض المشاركين في مؤتمر سياسة البرلمان الأوروبي في سان سباستيان يميل إلى سيناريو أوروبا المنقسمة، وما جرى في بريطانيا ليس استثناء وإنما ينتظر العديد من الدول، لا سيما الصغيرة منها، ما سيسفر عنه البريكست والذي سيضع ألمانيا وفرنسا في مأزق وجودي كأكبر الداعمين لفكرة الاتحاد الأوروبي.

وإقليميا في منطقتنا العربية كانت تجربة مجلس التعاون الخليجي أكثر بريقا وفاعلية، نظرا لقلة عدد الأعضاء والتجانس الإثني والتاريخي والاجتماعي بين دوله، لكن عجلت أحداث السنوات الماضية بنفض الغبار عن النار التي بداخله، وفضحت ما كان مسكوتا عنه ويعالج بصمت مرحلي في العقدين الماضيين في أروقة الدبلوماسية وأحيانا بالميانة وحب الخشوم.

بقي أمام الدول العربية بعد سقوط النماذج الدولية وتعري التجارب العربية القومية والأممية نموذجان لا ثالث لهما، الأول: هو النموذج الإيراني التركي الذي يسعى إلى فرض نظامه الإقليمي في دول ضعيفة السيادة على أراضيها مع هشاشة السلطة المركزية، فتسعى إلى تبني مجموعة مذهبية ذات أقلية عددية وشعبية، ثم تمدها بالسلاح والمال وفق خطة ذات نفس طويل تستخدم سلاح الترغيب والترهيب إلى حد التصفيات الجسدية والاغتيالات السياسية، على النحو الذي فعلته إيران في العراق وسورية بالتحالف مع مكونات سياسية ومذهبية فيها، وما فعلته مع حزب الخميني بلبنان وحماس غزة وحوثي اليمن، مفتخرة بسيطرتها على القرار في 4 عواصم عربية، وسعت إلى تكرار التجربة مع عوامية السعودية وإخوان مصر ولؤلؤة البحرين وعناصر الكويت والتشييع في الجزائر والسودان ولم تستطع.

وكذلك ما فعلته تركيا في شمال العراق وسورية، وفي التواجد العسكري في قطر والصومال وليبيا، ومحاولة التغلغل في السودان عبر سواكن، والاستهداف السياسي والإعلامي للزعامات العربية في السعودية ومصر والإمارات.

والنموذج الآخر يكمن في دول قومية ذات سياسة قوية على أراضيها بتنمية حقيقية ورؤية واضحة للمستقبل وسلطة قوية على حدودها، بصرف النظر عن طبيعة الحكم الذي يختاره شعوب كل دولة ملكية أو جمهورية، وهو النموذج الذي تبنته السعودية عبر تاريخها منذ أن أصرت على تسمية جامعة الدول العربية بهذا الاسم أمام تسميات اقترحتها الدول الأخرى مثل التحالف العربي والجامعة العربية والدول العربية المتحدة، ورأت السعودية أن جامعة الدول العربية تعني أن تكون هناك دول عربية لها استقلاليتها المركزية ثم تجمع في هذه الجامعة وليست اتحادا فيدراليا أو كونفيدراليا.

وعندما أعلنت رؤية السعودية في 25 أبريل 2015 تصدرت بكلمة الملك سلمان أراد فيها أن تكون بلادنا نموذجا ناجحا ورائدا في العالم على كافة الأصعدة، وأنه سيعمل على تحقيق ذلك، وأوضح صاحب الرؤية وعرابها الأمير محمد بن سلمان مرتكزات الرؤية الثلاثة بشكل واضح وحاسم حين ذكر أنها ترتكز على مكامن القوة؛ وهي القدرات الضخمة لبلادنا البشرية والتاريخية والاستثمارية، فالعمق العربي والإسلامي، ثم الموقع الجغرافي الإستراتيجي كونها أهم بوابة للعالم بصفتها مركز ربط القارات الثلاث وتحيط بها أكثر المعابر المائية أهمية.

ولذلك كانت عوامل نجاح الرؤية تقضي ببناء السعودية أولاً، وذلك قبل أن يطرح ترمب شعاره «أميركا أولا»، وشي جي بنغ «الصين أولا»، وشعارات «بريطانيا أولا»، كما بدأ الرئيس السيسي تنميته بمصر أولاً، والمجلس السيادي في السودان والحكومة وضعا فكرة السودان أولاً في البرنامج الذي بدأ العمل عليه، وهذا هو النموذج الذي تعمل عليه السعودية في أن مصلحتها الوطنية والقومية تتحقق في بناء الدولة من الداخل، ورفع إجمالي الناتج المحلي وتكريس دولة قوية ذات سلطة على أراضيها ومواردها، ثم دعم الدول العربية لتكون ذات سيادة وسلطة مركزية قوية وتنمية حقيقية فيها، وهذا الشيء يحدث الآن في مصر والإمارات والبحرين والأردن وغيرها، وبدأت دول أخرى تضع نفسها على المسار نفسه في السودان وتونس والجزائر وغيرها، كما تدعم السعودية الدول التي اختطف فيها القرار في العواصم الأربع لتكون قوية بذاتها، وبذلك سعت بتكريسها لنموذجها في أن تبني سعودية قوية وتدعم الدول العربية الأخرى لتكون قوية بتراثها وشعبها ومواردها وناتجها المحلي، فإذا كان هناك تحالف أو اتفاق بعد ذلك فهو تحالف واتفاق الأقوياء على عكس ما تفعله إيران وتركيا وقطر في إضعاف الدول عن طريق تغليب ودعم بعض طوائفها وهز الاستقرار فيها وتدمير السلم الأهلي واستنزاف مواردها، ولكن لن تستطيع السعودية أن تحقق كل ذلك للدول العربية ما لم تكن هناك إرادة داخلية سياسية في تلك الدول تساعد نفسها وعلى نفسها، إذ لا يشنق مشنوق إلا ونصف الحبل من عنده، أما الشعوب فقد أدركت الحل الناجح في النموذج السعودي، ولا يمكن لأي محلل أن يتجاهل دلالات المقاطع الشعبية العفوية الكثيرة لأفراد في العراق ولبنان وتونس والجزائر، وحتى في لندن وهم يطلبون بحرقة شخصا مثل محمد بن سلمان، لأنهم رأوا بشائر النموذج السعودي رغم كل الحملات الموجهة والمحمومة التي تنال منه ومن القيادة السعودية والدولة السعودية حكومة وشعبا.