رحم الله الدافعية، فقد انتقلت إلى رحمة الله بعد محاولات حثيثة للبقاء، رغم الظروف الخانقة التي أحاطت بها في السنوات الأخيرة.

كانت المرحومة حسنة السير والسلوك، وأسهمت في وصول كثيرين إلى أهدافهم ليقودوا بعدها المشهد العلمي في الوطن. كانت المرحومة معدية، إذ تقفز بخفة الفراشة من روح إلى أخرى بوجود المعنيين في المكان ذاته، وبتعرضهم للمؤثرات التعليمية والاجتماعية ذاتها، ولذلك كانت الأسر تتقصى الأصدقاء، وتحث أبناءها على صحبة عالي الدافعية، واضح الأهداف، ذلك المجتهد الذي يلاحق طموحه بلا كلل ولا ملل، لأن الصاحب ساحب.

كنا مثلا نصادق من تكرمها الإدارة لتميزها، فمن سايرت كنت، وكانت المجموعات المميزة علما وأدبا معروفة، لأن القرين بالمقارن يقتدي.

لم تكن الدافعية حصرا على مكتملي الصحة، أو على طبقة اجتماعية معينة، بل كانت ملكا لمن يغذيها بالحرص والتفوق والصبر والمثابرة.

كانت تعيش في الصدور والعقول، وتتغذى على الطموح وتعززها التربية، ففي كل مرة تتصفح فيها الأم أو الأب دفتر المتابعة الأسبوعية لتقرأ ما كتبه المعلم أو المعلمة من ملاحظات عن الطالب، من قبيل «أشكر الطالب على حرصه واهتمامه وتفوقه - معلم المادة»، كانت تعلو وجه المربي ابتسامة الفخر، ويثني على الصغير أو الصغيرة «بعدي، لا تتنازل أبدا عن المركز الأول». بل أوقدت بعض الأسر شرارة الهمة والدافعية في أبنائها دون أن يحمل الأب أو الأم أي شهادة دراسية، كل ما ورّثوه لأبنائهم هو الدافعية العالية، والطموح المتقد.

تدهورت صحة المرحومة بعد تعرضها لتسمم متكرر استهدف منظومة التعليم وسياساته، بدأ المرض بحمى مرتفعة عن تغيير آليات التقييم، قامت باستنساخ تجارب مجتمعات أخرى دون التأكد من جاهزية الناسخ والمنسوخ إليه.

قالوا في التشخيص، إن الجميع متفوق وإن دور المعلم هو اكتشاف جوانب القوة وتعزيزها، وهذا نظريا ارتباط جميل، لكن مواليده مشوهون.

يكفي أن نقرأ التقرير العالمي الأخير عن نواتج طلابنا، لنقيم المآتم وسرادق العزاء.

بل يكفي أن نرى احتفاء إحدى الجامعات بتحقيقها نسبة مخجلة في برامج المعلمين، لندرك أن الدافعية ماتت أو أوشكت، ومشيّعوها لا يخجلون من البكاء عليها، والمشي في جنازتها.

لم يسلم المميزون علميا من آثار هذا التسمم، وذلك لأن الفيروس يصيبهم في مقتل!. ماتت دافعية غالبهم تدريجيا بجرعات من الإحباط، وهم يرون أنفسهم سواء بسواء مع من يحقق الحق الأدنى من المهارة، ليصبح المتفوق أفضل السيئين، وصاحبه البليد أسوأ الجيدين.

يحصل هذا تحت سمع وبصر المغلوبين على أمرهم من المعنيين والمستفيدين الذين يتجرعون مرارة هذه الإخفاقات، ويرون ترنح مؤسسة التعليم كمركب يحاول جهده أن يصل إلى وجهته. لكنه -للأسف- لا يعرفها ولا يعترف بجهله لها.

ولأن قتل الدافعية لا يقف عند حدّ، فقد طالت آثاره بعض الدارسين في الخارج، ببركات من لا يعترفون بأنهم لا يعرفون. أؤجل هذه القصة للمقال القادم.