هل سياسة الضغط الأقصى لإدارة الرئيس ترمب، وفرض مزيد من العقوبات على الاقتصاد الإيراني، هي السبب في اندلاع الثورة؟.

الإجابة هنا قد تتجاوز «نعم» و«لا»، لأن ثورة البنزين في إيران جاءت في سياق تحولات جيوسياسية غير مسبوقة، وتدفق ثوري في مناطق عدة من العالم.

ومن هنا، يصبح السؤال الأهم: ما الذي يميز الثورة في إيران تحديدا؟ وما دلالاتها وأبعادها؟. ما يجمع بين الثورة في إيران وموجة الاحتجاجات الشعبية «الثورات» التي اجتاحت العالم والشرق الأوسط عام 2019: هونج كونج، فنزويلا، الإكوادور، تشيلي، السودان، الجزائر، العراق، لبنان، وغيرها، أنها ثورات تتميز بسمات خاصة جدا.

أولا: واجهت حكوماتها بتحديات أكبر من قدرات قادتها على استيعاب هذه الثورات وتحقيق مطالبها، مما يشير إلى تصاعد الأزمات وإطالة أمد الاضطرابات لأجل غير مسمى، وهو ما ينذر بإشاعة الفوضى أكثر من تحقيق الاستقرار على المدى القريب.

ثانيا: وقود هذه الثورات ليست الطائفية أو المذهبية أو الأيديولوجيا. ففي لبنان -كنموذج- اتحد المتظاهرون من جميع الطوائف تحت شعار «نحن شعب واحد»، مما شكل تحدّيا لأعمال التوازن الطائفي التي طبعت سياسة البلد منذ فترة طويلة.

أضف إلى ذلك، أن هذه الثورات ليست «صراعا على السلطة»، وإنما هي ضد الفساد والمظالم العامة المشتركة، وسوء الأوضاع الاقتصادية التي تطال معظم طبقات الشعب. وطبيعي أن يكون الشباب في طليعة هذه الثورات لأنهم الأقدر على استخدام وسائل العصر التكنولوجية في التعبير والتظاهر والحشد والتنظيم، وما يصعّب الأمر على السلطات الاستبدادية في وأد هذه المظاهرات العارمة، هو أنها بلا قادة يمكن تحديدهم وتصفيتهم، وربما لهذا السبب تطور الثورات آلياتها بطرق لا يمكن التنبؤ بها.

ثالثا: إن أبرز ما يميز ثورات عام 2019، هو تطلع الشعوب إلى تحقيق المواطنة المتساوية والكرامة والاحترام، بعد أن تعرضت للخديعة بفضل الشعارات الطائفية والمذهبية الجوفاء، والإهانة العقلية في عصر الميديا والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، التي كشفت كَمّ الزيف والكذب للحكام المستبدين، فضلا عن التجاهل والاحتقار والتغييب من المشاركة الفاعلة في الحكم، من قِبل النخب السياسية و«الدينية» الفاسدة التي تعاملت مع شعوبها على أنها قاصرة، ولم تبلغ بعد سن الرشد!.

رابعا: الدوافع وراء هذه الثورات أعمق بكثير وأبعد من أسبابها الظاهرة، فليست زيادة الضرائب على «واتساب» أو أسعار البنزين أو وسائل المواصلات العامة هي الأسباب المباشرة -على أهميتها- وإنما «السياسة العامة»، وسوء إدارة النخب السياسية والدينية التي صارت عاجزة تماما عن مجابهة مشكلات المجتمع والعصر معا. فقد لاحظ المتابعون لهذه الثورات -على تنوعها- أن السلطات لم تكن مستعدة لمواجهتها، بل واستهانت بها. لذا، جاءت استجابتها ببطء شديد ومتأخرة، مما ينم عن أن الشعوب تسبق قادتها بخطوات واسعة على المستوى الإدراكي والمعرفي، وأنه لا مناص من تغيير تلك النخب السياسية تغييرا جذريا لا شكليا.

فقد بدأت الأعداد قليلة في الشوارع والميادين بمطالب ولافتات بسيطة في البداية تعارض ارتفاع الأسعار والفساد، ثم فجأة انطلقت أعداد هائلة من الجماهير لتشكل قوة كبيرة تطالب بإسقاط النظام، وفي إيران «الموت لخامنئي».

خامسا: إساءة فهم السلطات القائمة لما يحدث في إيران، ومن قبل العراق ولبنان، عقّد الموقف وقد يطيل الأزمة. هذه ثورات شعبية مكتملة الأركان وليست انتفاضات، والثورة تستلزم حلولا جذرية، وليس تسويات ترقيعية.

وهي تواجه السؤال نفسه الذي طرحه «نيكر» وزير مالية لويس السادس عشر، إبان الثورة الفرنسية عام 1789: أتسقط فرنسا أم الملكية فقط؟. احذف فرنسا وضع مكانها لبنان والعراق وإيران وما تشاء من الدول.

بالنسبة للملالي في إيران، فإن الإجابة عن سؤال «نيكر» محسومة سلفا: فلتسقط إيران والمنطقة والعالم وليس النظام!.

وهنا تحديدا، نلمس أحد أبرز وجوه الخصوصية في ثورة إيران اليوم، لقد حلّ الغضب واليأس محل الأحلام والآمال، فالإيرانيون يملكون بالفعل ما يجعلهم دولة متقدمة اقتصاديا، لكن سوء استخدام هذه الثروات بعد عام 1979، وإهدارها في مغامرات تصدير الثورة للجيران حتى يظل النظام قائما من جهة، ثم المليارات التي تدفقت على طهران عقب إبرام الاتفاق النووي (5 +1) عام 2015، والتي وُظّفت في تمويل الإرهاب والميليشيات المختلفة لزعزعة استقرار الشرق الأوسط، فجّر الغضب المكتوم في الصدور، وأدى إلى سقوط قدسية الملالي إلى الأبد.

نحن أمام ثورة بملامح جديدة عام 2019، لها دوافع غير مسبوقة، منذ وأد ثورة عام 2009، مرورا بثورة عام 2017، وهي تتمثل في التالي:

أولا: وجد ثوار إيران أنفسهم «وحدهم» أمام سلطات استبدادية غاشمة غير قابلة للتغير، في ظل تحولات جيوسياسية غير مسبوقة في المنطقة والعالم، جاءت في غير مصلحتهم، وتتمثل في: تلاعب الولايات المتحدة بسيناريوهات مواجهة تجاوزات إيران «النظام والحرس الثوري» وتمددها في دول الجوار، خاصة بعد انسحاب أميركا من الاتفاق النووي، والذي يعني في العمق «إعلان الحرب».

فضلا عن إحجام الرئيس ترمب عن الرد العسكري على اعتداءات إيران المتلاحقة على دول الخليج، وإسقاط طائرة أميركية بدون طيار في الشهور الماضية، رغم الحشود العسكرية الأميركية وقواعدها المنتشرة.

فقد شعر الإيرانيون باليأس من إمكان المساعدة الخارجية الأميركية، مع تكرار إعلان الرئيس ترمب الانسحاب من المنطقة.

ثانيا: في المقابل، يشعر ثوار إيران بالإحباط عادة من مواقف روسيا المتحالفة مع إيران في سورية، فضلا عن دفاعها عن الاتفاق النووي، وتشكيل تحالف مع إيران وتركيا «تحالف القوى الاستبدادية» لتحقيق مصالحها الخاصة، وليس دعما لشعوب المنطقة التي تتطلع إلى الحرية والتقدم.

ثالثا: أصبح الخوف مما يحدث في إيران تحديدا، مشروعا ومفهوما «إقليميا ودوليا» لأنه قد يغيّر من الأوراق الجيوسياسية في المنطقة، وليس فقط النظام في إيران.

لقد ثار الإيرانيون هذه المرة لأنهم أدركوا أن نظامهم سيّئ إلى درجة أنه لا يمكن إصلاحه، ورغم غياب أي بدائل جاهزة لهذا النظام، فإن التخلص من نظام الملالي هو الهدف الأول، وليس التفكير في إنشاء نظام جديد، مما يجعل التنبؤ بما سيحدث في قادم الأيام أقرب إلى التمني وأبعد عن الصواب.