تغيّرت المعادلة، ولم تعد سيكولوجية الثائر العراقي واللبناني، وحتى المواطن العادي، كما كانت عليه في السابق.

فاللاوعي الجمعي العاطفي المغيّب، الذي أحدثته الحرب الأهلية في لبنان وحرب الخليج الثانية، وما أعقبها من سقوط حكم نظام البعث «الأوليغاركي» بالعراق، لم يعد يكترث لخطاب التوافق الطائفي والمحاصصة السياسية، ولم يعد يهمه سوى تغيير كلي لمنظومة الحكم الحالي، والتي أنتجتها ظروف زمانية ومكانية مؤقتة، نتج عنها في الحالة العراقية الارتماء في أحضان المرجعيات الدينية، البديل الروحي المتوافر ضد البعث، والمخيّر وقتها بين النجف وكربلاء وجمع من السياسيين والقوات الأميركية، التي رغم أنها حملت المعارضة العراقية بالخارج لسدة الحكم، إلا أنها بقيت في عيون الغالبية من الشعب قوات غازية.

لذا، لم تشأ أن تتعاون معها، فكانت المرجعية البديل الوحيد وقتذاك، فاستقت من المظلومية والقهر شعارا للمرحلة التي نادت بها، فالتفت الجموع حولها، فكانت لها السطوة في المشهد العراقي، بعد أن غذّت النزعة الطائفية، وشكّلت نظاما ثيوقراطيا في الحكم لم ينكره السياسيون، بل استمدوا قوتهم منه.

في لبنان، كانت ويلات الحرب الأهلية التي استمرت أكثر من ربع قرن، وتسببت في مقتل وإصابة وتشريد ما يقارب ثلث اللبنانيين، الدافع لِلُورْدات الحرب وميليشياتها، والأحزاب المتنازعة، والمحفز للقبول باتفاق الطائف الذي كان الحل الأمثل وقتها لسلام لبناني- لبناني معدوم، فنزع فتيل الأزمة عبر المحاصصة، وخلال نظام انتخابي يضمن أن ينال الجميع مكانا في الحكم، دون طغيان أحدهم على الآخر، وهو ما تسبب في سنوات من الاستقرار الأمني والسياسي الهشّ، لكنه أدى إلى غياب دولة العدالة والقانون، وتفشي الفساد المالي الذي حضرت فيه جميع القوى، دون خوف من محاسبة يعززها نأي المعارضين والحلفاء عن الاصطدام.

قد يكون النظامان السابقان للحكم في لبنان والعراق، واللذان ما زالا يتصدران المشهد السياسي، متوافقين مع حالة اللاوعي الفردي والجمعي لجيل شهد ويلات الحرب، وحكم الحزب الواحد الاستبدادي، لكنهما -وبكل تأكيد- يتعارضان مع الجيل اليافع للبلدين، وتطلعاتهما الوطنية الصرفة والعدلية والاقتصادية، في حياة مختلفة بعيدة عن خوف الآباء، ودونما ارتباط روحي بأيديولوجيا دينية وطائفية وحزبية، يرون فيها المتسبب الأول لحالة الفساد المستشري والانفلات الأمني.

ومن هذا المنطلق، جاءت مظاهراتهم عفوية وبشجاعة منقطعة تطالب بتغيير المنظومة السياسية بالكامل ودون استثناء، وترفض السلطة الدينية وسط دعوات باتت صريحة وواضحة بنفاد صبرها من التدخلات الخارجية في شؤون أوطانهم، وموجهين -على وجه التهديد- الاتهام الصريح لإيران بإفساد المشهد السياسي والديني في بلادهم، ورافضين الارتهان لها ولرجال الدين والسياسيين المنفذين لأجندتها دون مواربة.

شباب اليوم في العراق ولبنان، باتوا يعون جيدا ألا عودة عن مطالبهم بعد أن ملّوا وعود الإصلاح الكاذبة، ولم يعد يجدي معهم التلويح بالقمع والتنكيل، ولا الانزواء تحت مظلة قيادات حزبية وسياسية، ومرجعيات أمعنت في تضليلهم.

أما حاضرهم -على قتامته- فستجليه فقط دولة المواطنة والعدالة والنزاهة والشفافية، التي يقوم عليها الأكفاء بغض النظر عن طائفتهم وكتلهم السياسية، والذين لن يكون سبيلهم في التغيير المنشود سهلا بل صعبا ومعقدا جدا، في ظل تغلل عناصر وقوى الظلام في الحياة السياسية، ومعهم جماهير لا ننكر أبدا ولاءها المصلحي وتمسكها ببقائهم.