أحيانا مركزية الإسلام كدين في نفس المسلم تتجاوز مركزية الله، فتجد أحدهم يقول: الإسلام أعطانا حرية التفكير والإبداع لكن المشكلة في تفسيرات رجال الدين، بينما الحقيقة تقول: إن الله أعطى كل البشر حرية التفكير والإبداع، ولهذا فأحمد زويل (المسلم) أبدع في مجاله العلمي، وحصل على نوبل كما حصل عليها غيره من اليهود واللادينيين والمسيحيين، فما دخل الدين هنا؟

مركزية الدين كشعار أيديولوجي عند المتأسلمين يشبه مركزية القومية العربية كشعار أيديولوجي لدى البعثيين وعموم القوميين العرب، ولهذا يعجز العقل عن الانطلاق الحر في تفكيك واقع النظر للحياة، والأيديولوجيا تحولت من (علم أفكار) إلى هيمنة فكرية وتعطيل ملكات نقدية، ولهذا كتب توفيق الحكيم بعد انتهاء الناصرية كتاب (عودة الوعي)، فحتى مثقف بحجم توفيق الحكيم سقط تحت سطوة البروباغندا والأيديولوجيا.

الشعار الأيديولوجي يبقى مقبولا في إطاره البيداغوجي/ التربوي لأي دولة في الدنيا، لكنه يتحول إلى شعار مسموم ينفلت من عقاله إذا تحول إلى عصبية وتزمت فكري (شمولي)، ولهذا تسن الدول قوانينها الضامنة للتنوع الاجتماعي، فالتنوع والتعددية في هذا القرن الجديد، وفي الوطن العربي خصوصا، هو ضمانة وحدة وطنية، بينما العصبية والتزمت الشمولي دعوة مفتوحة للاحتراب الأهلي المعلن عبر المظاهرات، أو الاحتكاك المباشر بين الفئويات على تنوعها الطائفي أو الإثني العرقي أو غير المعلن عبر لطميات حقوق الإنسان التي قد تتساهل فيها، أو تتكبر عليها، بعض الدول كما تساهلت وتكبرت السودان فكانت سودانين.


الشعار الإسلامي شعار أيديولوجي مخيف ومرعب، خصوصا وقد بلغ ذروته وطاقته التعبوية في داعش، واستنفد كامل تاريخه ونموذجه المتخيل على أرض الواقع في (دولة الإسلام في العراق والشام) لنرى الذبح والسبي وسوق النخاسة، وما زالت هذه الأيديولوجيا تغلي للأسف في رؤوس كثير، لكنها ارتطمت بشتاء الواقع وصقيعه.

الإسلام كدين من أعظم الأديان على وجه الأرض بمليار ونصف المليار مسلم، وكل من أراد تحويله إلى أيديولوجيا سياسية فقد اختزل المليار ونصف المليار إلى بضعة آلاف ممن (نحتقر صلاتنا إلى صلاتهم وصيامنا إلى صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) كما ورد في وصف الخوارج قبل ألف سنة وأربعة قرون.

انتهت حفلة الإسلام السياسي وانفض السامر على بقايا من مرضى نفسيين ومجاميع صغيرة من الواهمين الحالمين يملؤون جلساتهم بملاحم آخر الزمان، فكأنما اتحد الهوس الأيديولوجي للسنة والشيعة في علامات الساعة، إذ خابت وخبت جذوة حركات الإسلام السياسي، متناسين أن الإسلام مربوط بالله أكثر من ارتباطه بنبيه، ولهذا قيل (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، فكيف يتوهم الإسلام السياسي ممثلا في أسماء عديدة تتزعمه أنها أعلى مقاماً من رسول الأمة وخاتم النبيين، وعلى المتعاطفين مع هذه القيادات أن يعبدوا الله وحده، عقيدة نقية صافية لا يخالطها (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) وهم لا يشعرون، وكل هذا من طبيعة الواقع فقد مات عبدالناصر ولم تمت العروبة ولا اللسان العربي إلا في عقول من كان (يعبد عبدالناصر)، بل أصبحنا كأمة عربية أكثر وعيا بواجبنا الوطني تجاه دولنا، كل على حدة، فمجد الجزائر من مجد المغرب، دون دسائس تفرق ولا تجمع، ومجد العراق من مجد السعودية دون طائفية تفرق ولا تجمع، أما الإسلام فمجده محفوظ بكل لغات العالم وعبر كل أذان تصدح به المساجد في كل بقاع العالم، دون حاجة إلى سياسة تخرج من ناصية كاذبة خاطئة، عاشت تيه السامري في عجل له خوار من كتب سيد قطب ورسائل حسن البنا، فكان مكر التاريخ الذي لا يرحم إذ كانت حياة من عَبَد (عجل إخوان المسلمين) أن يقول أبد الدهر (لا مساس) في أرض الشتات بكل منفى بعيد بعيد، هناك في بلدان ترفع الصليب كرمز قداسة يعلو على ما سواه، فقد أصبحوا أقل شرفا وأدنى مقاما من كلمة المعتمد بن عباد (رعي الإبل خير من رعي الخنازير)، ثم تراهم يكتبون من أرض الشتات دروسهم لنا عن حماية الدين والأعراض، فيا لبؤس أقدارهم وفساد بوصلتهم، لم نكرههم كبشر يوما لكنا كرهنا مكر أفكارهم إلى نخاع العظم، أما هم كأشخاص فنرثي لحالهم كمرضى أيديولوجيا، وندعو لهم من قلوبنا بالشفاء، من كان يتخيل أن الطريق الوحيد لبقاء حركة الإخوان المسلمين وابنتها السرورية على مستوى العالم أن تعتنق (العلمانية) لا كمنهج سياسي دولي، بل (كعقيدة سياسية) تعري حقيقة كل شعار ركبوه!، غير مدركين لفجوة التاريخ التي في عقولهم، أسقطوا خطوات الخيل وقوافل الجمال قبل مئات السنين على خطوط الملاحة الجوية لطائرات القرن العشرين، فكانت أحداث سبتمبر الفاجعة للبشرية جمعاء، كشاهد حقيقي ومرعب لهذه الفجوة الكبيرة في (العقل الإسلامي)، لترى مثلا من يقيس (بيت المال) في دروس الفقه البسيطة على (مؤسسة النقد) (وصندوق النقد الدولي)، فهل من يصنع خطام البعير كمن يصنع الطائرة؟ حتى الآن لا يريدون الشعور بالفرق، بل يردمونه بتخريجات يسمونها (فقه الواقع) غير مدركين لحقيقة هذا الواقع الذي انقسم إلى نوعين (افتراضي، وغير افتراضي)، وكلاهما جزء مهم من حياتنا وأحداثها، فبأي فقه واقعي يريدون الهيمنة، الواقع تنوع وتعدد، لقد أصبح أكبر من مخيلتهم فكيف يفقهونه؟!

وأخيرا... ظالم من لا يحترم حرية الأميش في حدودهم الخاصة التي لا تؤثر على الفضاء العام، وأحمق من يضع حياة الأميش معيارا للحق والدين.