كغيمة غادية تحمل معها كل مواسم العشق وسنابل الحب وحبات القمح الصفراء، وأغنيات الصباحات المليئة باشتهاءات الجمال وعناق الخيال، وخبز أمي وحكايات الحصاد، وأقدام الطفولة المتسخة بالطين، ورائحة المطر والعطر والشعر والنثر. فيروز امتداد التاريخ والجغرافيا وحناجر الشعوب والأوطان، مدينة القيثارة والموسيقى الدافئة القابعة في ذاكرة القرى وكل حكايات الأمس والغد، هي أصبوحة الإحساس وجارة الوادي التي تلثم ناي الرعاة وقرية أبوالقاسم الشابي الخضراء تدندن للحياة:

قد أفاق العالم الحي وغنى للحياة

فأفيقي يا خرافي وهلمي يا شياه

هي شوقيات الطرب المتلاشية في إفاقة الذكرى وأحلام الكرى، فيروز أغنية الميلاد وميلاد الأغنية الـ«84» المسافرة نحو تراتيل المساءات الشاتية، ورجعت الشتوية المسكونة بأبيات الشعراء الحالمين، وأصوات العاشقين، والعازفين المتيمين الذين يرددون معها ولها في ليلة ميلادها: الليلة عيد.. ليلة عيد.. الليلة ليلة عيد.. صوت ولاد.. تياب جداد.. وبكرا الحب جديد.. فيروز اللحن الذي سكن وديعيات الصافي وحنين البيت الفقير.. يا بيتنا البيت الفقير.. يا بيتنا خلف الضباب، فيروز الأسئلة الحائرة على شفاه المحبين، الأسئلة الثائرة في عيون الحاسدين، هي الطائر المهاجر بحثا عن السلام عن الوطن، فيروز أغنية الاستثناء التي لا تولد في العمر إلا مرة وتعاد في كل عام مرة، كي تعيد فينا لهفة الطفولة وغواية الموسيقى ومغازلة الشمس وروايات البحر وشباك الصيادين، كأنها مناجاة الحب وقت السحر.. شايف البحر شو كبير.. كبر البحر بحبك..! فيروز الدهشة التي يحدثها الحنين فينا ثانية وثالثة وعاشرة كلما صدحت فيروز: يا زهرة تشرين.. يا دهبي الغالي.. بعدك على بابي يا حلو يا مغرور، فيروز قيثارة السماء التي لا تشيخ وأرزة الأرض التي لا تموت، هي صوفية الروح وقداسات الأزمنة والأمكنة العابرة في كل تفاصيل حياتنا، وقلب كل أم حنونة مغمورة بدفء الأمومة الوارف:

يا ملاكي.. يا حبي الباقي إلى الأبد

هي لحظة الشجن التي يخلقها الفراق فينا ويرسمها على وجه كل الطرقات المليئة بالتيه..! هي جارة القمر، ولا بأس أن تكون القمر الذي يرسم الشمس في موعد حالم يغني بدموع المهجر خليليات جبران حين سكن الليل لا تخافي فعروس الجن في كهفها المسحور.. هجعت سكرى كادت تختفي.. عن عيون الحور، فيروز عاصمة الفن الخالد وفن العواصم الباذخة، هي شهرزاد وحكايات ألف ليلة وليلة، هي النصر في عز الانكسار..

«انهضن يا سجينات أنا شهرزاد..!» ملكة المسرح وسفيرة الأغنية العربية ووطن لكل أغنيات العالم بكل لغاته وطقوسه وإن كانت الضاد أجملها..! فلا حدود تتخطاها ولا تذاكر سفر تحملها؛ لأنها باختصار وطن الأغنية وأغنية الوطن الذي يسافر لها ومنها كل المغتربين والتائهين الباحثين عن أحبابهم وعن أوطانهم، عن وطن النجوم عن إيليا أبو ماضي: عاش الجمال مشردا في الأرض ينشد مسكنا حتى انكشفت له فألقى رحله وتوطنا، وطن النجوم أنا هنا.. حدق، أتذكر من أنا؟ فيروز الصوت الطفولي القادم من حارة زقاق البلاط ببيروت لبنان، ورحلة الفن الطويلة برفقة «الأخوين رحباني» والشهرة التي تبحث عنها دائما ولم تبحث عنها أو تعرها اهتماما، أليست فيروز «أميرة التواضع»؟! فيروز الموشحة اللبنانية التي ننسى أن نكبر في حضورها، فهي زهرة المدائن والشام وبغداد والشعراء ويا زمان الوصل بالأندلس.

ومضة:

في عيد ميلاد ياسمينة الشام وصوت الأوطان

«فيروز»، نهاد رزق وديع حداد - وهو اسمها الحقيقي - يقول أمير الشعراء شوقي:

وتعطلت لغة الكلام وخاطبت

عيني في لغة الهوى عيناكِ

لا أمس من عمر الزمان ولا غد

جمع الزمان فكان يوم رضاكِ