كم هي عميقة عبارة الفيلسوف العربي (مراد وهبة) في تعريف الإبداع عندما قال: هو (معرفة المستقبل القادم لتغيير الواقع القائم)، مذكراً بأن نعوم تشومسكي اعترض عليه بأن تعريفه للإبداع تعريف سياسي، وليس تعريفا علميا، فالعَالِم مهمته معرفة القادم، أما تغيير القائم فمهمة السياسي، ويرد على أطروحة تشومسكي بأن معرفة القادم دون السعي لتغيير القائم هو إعلان وفاة لهذه المعرفة (تولد ميتة)، ونضيف أن معرفة علي عبدالرازق مثلاً لمستقبل الخلافة الإسلامية وأنها مستحيلة في العصر الحديث، دون السعي لتغيير الواقع الوجداني القائم عليه المجتمع، خلق لنا (دولة الخلافة في العراق والشام) بعد قرابة قرن من صدور الكتاب، لأن ما طرحه في كتابه عن (مدنية الدولة) قوبل بمقاومة شديدة نعيش ارتداداتها حتى هذه اللحظة، فحتى كتابة هذه السطور لم تخرج بعض الدول من شراكة وثنائية الحاكم الدنيوي والحاكم الروحي التي عاشتها أوروبا في القرون الوسطى.

نعود لعبارة مراد وهبة في أن الإبداع هو معرفة المستقبل القادم لتغيير الواقع القائم، لنصاب بخيبة أمل أخرى، وهي أن العقل العربي في نظرته للزمان يرى «ماضي وحاضر ومستقبل»، لكن بشكل مختلف جذرياً عن العقل الحضاري الحديث، فالماضي عنده حقيقي وموجود ومهيمن على حاضره، ولهذا فهو في مستقبله يعيد إنتاج ماضيه، وإذا تم الضغط عليه ليفكر في مستقبله بشكل عملي وموضوعي، قفز من المستقبل الحي إلى المستقبل الميت، أي في حياته بعد الموت، متجاهلاً مستقبله في هذه الحياة، أي أنه بشكل ما لا يحمل هموم مستقبليه بالمعنى الحضاري، بل يحمل هموم مستقبليه بالمعنى البدائي، ولا يستطيع إفراز أفراد يحملون عنه الهم الطليعي للمشاركة الحضارية، فإذا خرج مبدعون من أي نوع بالمعنى الحقيقي للإبداع فسيتم قمعهم اجتماعياً قبل أن يتم قمعهم سياسياً.

الإبداع هو معرفة المستقبل القادم لتغيير الواقع القائم، وعليه ولأول مرة نجد جدية حقيقية في دولة عربية حديثة تصل إلى جدية وصرامة وحزم السياسة السعودية في (معرفة المستقبل القادم لتغيير الواقع القائم) لتحقيق الإبداع الحضاري تحت عنوان رؤية (2030)، فالرؤية في حقيقتها البنيوية طوق نجاة حقيقي لواقع قائم كان ينظر للخلف فقط لسنوات المن والسلوى النفطية، ثم جاءت الصحوة فجعلته ينظر للخلف أكثر وأكثر لتصل نظرته إلى أوهام متخيلة لدولة الخلافة الماضية، التي لم يتوفر فيها ما توفر في هذا العصر الحديث من مدارس وجامعات ومستشفيات، فكيف نقارن زمنا تكون فيه الكوليرا والطاعون والجدري وشلل الأطفال أمراضا تجتاح قرى بكاملها وأقصى ما تملكه العقول آنذاك من علاج حيالها إما العسل أو الحبة السوداء وآخر العلاج الكي بلا جدوى، وبعدها لا يجد الإنسان القديم من مبرر لهذه المصيبة سوى اتهام القرية الموبوءة بالجدري باقتراف المعاصي والذنوب كحيلة وجدانية أمام الخوف والفجيعة والجهل المطبق لفوضى الموت التي يراها تجتاح البشر دون لقاح شافٍ، هل نقارن ذاك الزمن بزمن تعلن فيه الدول اختفاء هذه الأمراض والأوبئة، هل أدركنا معنى الحضارة؟ ومن لا يعجبه المقارنة، أو يمارس مغالطة في ردها، فليتوقف عن تطعيم الأطفال المجاني الذي تصرفه الدولة وفق شهادة تطعيم تضمن الرعاية الصحية الأولية للطفل منذ ولادته وحتى سنواته الأولى.

الإبداع هو معرفة المستقبل القادم لتغيير الواقع القائم، ولهذا فمن حقنا أن نقول لكل الخائفين، ابقوا على خوفكم الذي ورثتموه من آبائكم عندما امتنعوا عن تدريس بناتهم، ليبقى بعضكم يفاخر بأن أمه لا تقرأ ولا تكتب ــ يا سيدي الأمية ليست فخر أبداً، الفخر هو في وعي أمك بمرارة أميتها وضرورة تعليمك، ولهذا أصبحت متعلماً، وأصبحت هي فخورة بعدم تكرار مرارة الجهل على قلب ولدها كما كانت على قلبها ــ ولكن بقايا الجاهلية التي لا يرفعها التعليم ما زالت تجري في ثنايا كلام البعض تعصباً وتفاخراً لا علاقة لهما بوعي ولا حضارة، ولهذا قد يكرر مأساة الأمية بشكل جديد على أخته وابنته في حرمانهما من تخصصات تريدانها كالطب والهندسة والقانون والإعلام.

الإبداع معرفة المستقبل القادم لتغيير الواقع القائم، وأي إبداع ننتظره ممن يرى المستقبل بعيون الماضي، فيرى في أمريكا وروسيا فارس والروم متناسياً خمس دول لها حق الفيتو، قافزاً على التاريخ الإنساني عندما صالت أساطيل البرتغال بلدان العالم، وجالت إسبانيا إلى أمريكا الجنوبية، قافزاً على فوضى المغول في المشرق العربي، بل تجده يمجد قرابة ستة قرون من التخلف تحت النير العثماني الذي توقف فيه العقل العربي عن الإبداع، فحتى نهضة محمد علي التي حاولها، يغفل كثير من المثقفين دور الدولة العثمانية في وأدها وإجهاض فاعليتها على المستوى العربي، وأقصى عبقريات الماضويين في استشراف المستقبل تكون في العودة لتراث الملاحم!!.

ما نرجوه أن تكون رؤية (2030) هي الإبداع الذي نأمله ويخافه الجاهلون ولا يريده الحاسدون لنا، لكن إرهاصات الإبداع فيها، أنها فعلاً وبالأرقام تعي إشكالات الواقع القائم وقامت بكل حزم وصرامة بتغييره على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، في سبيل مستقبل حضاري نرى إرهاصاته ونؤمن بها، والقادم إبداع، ومن يقاوم الإبداع ولا يريده سيكون حاله كحال كل الدول التي خافت التغيير ولم تمتلك الرؤية أو عجزت عنها بسبب العمى الإيديولوجي الذي أصاب النخبة السياسية والثقافية في تلك الدول.

المجد لدولتنا المملكة العربية السعودية، المجد لقيادتنا السياسية، المجد لشعبنا، المجد لنا فرداً فرداً كمواطنين ومواطنات نعرف واجباتنا في المواطنة ونعي حقوقنا فيها، فمطالب (زمن الرعايا) ليست هي استحقاقات (زمن المواطنة)، بينهما فاصلة وعي عقلاني، فبدون الرشد والعقلانية الحكيمة بمعنى وأهمية (الدولة) تضيع الطموحات بين من يشدك باتجاه دولة داعش التي تعيش (خارج التاريخ) أو دولة إيران التي تسير بإسلاميتها إلى (مزبلة التاريخ)، ما لم تنقذها جيناتها الحضارية للقفز من سفينة الملالي الغارقة بأوهام (ولاية الفقيه) التي تتقاطع في قبضتها الشمولية مع كل إيديولوجيات العالم البائدة (النازية، الفاشية، الستالينية، البعثية) ومثلها الأصولية الإسلامية التي قررت الصوم عن التكفير وسفك الدم للأغيار في المذهب أو الدين بسبب (الظروف السياسية، والانحناء للعاصفة)، كفيروس كامن في العقل يعيش الماضي غافلاً عن الواقع والمستقبل، أما الماضي فجله تاريخ ضائع بين إثنين أحدهما مهزوم صادق يؤمن بالأساطير، والآخر منتصر كذاب يؤمن بحق المنتصر في كتابة التاريخ، وعلى هذين الشخصين قامت الحكايا والصراعات بين أسطورة تهيمن على القلب، وكذبة تهيمن على العقل، أما الحقيقة فهناك تهمس من بعيد (لقد سرق الكذب ملابسي وتدثر بها) ولن يقبلني الناس إن خرجت عليهم عارية.