تسقم نفس الرجل والمرأة على حد سواء في مرحلة «ما» من مراحل العمر المُتعاقبة «الطفولة، المُراهقة، الرشد وفي الكبر» شأنها شأن البدن. تتنوع الاضطرابات النفسية وتختلف في الحدة والمعاناة من المشكلة النفسية البسيطة، مرورا بالمرض النفسي، وصولا إلى المرض العقلي الحدي، وبين الجميع هناك محطات مرضية- نفسية من مختلف التصنيفات، لتشمل اضطرابات الشخصية الأكثر غرابة والأصعب علاجا، والقصور الفكري والإدراكي «Neuro-cognitive». ما أود التأكيد عليه هنا أنه ليس هناك أحد «بمعزل» من التعرض لنوع أو أكثر من هذه الاضطرابات في مرحلة «ما» من مراحل حياته، خاصة في ظل قصور أو انعدام برامج تعزيز الصحة النفسية والوقاية من المرض. طالما الأمر كذلك، فمن أين ننشد تعزيز صحتنا النفسية؟ وأين نذهب عند الإصابة بداية؟ ومن أين نستشفي عند طول السقم؟. تضمنت رؤية «2030» لهذا البلد العظيم برنامجا وطنيا يعنى بجودة الحياة، والذي يركز على جانبين اثنين في منتهى الأهمية، هما تطوير نمط حياة الفرد، وتحسين جودة الحياة، من هنا فإن تحقيق أعلى درجات الصحة النفسية من خلال تعزيزها والوقاية من إشكالاتها وكذا علاج مشاكلها واعتلالها من أهم قواعد جودة الحياة، إن لم تكن هي الجودة ذاتها.

يأتي تحسين «Reform» واقع الصحة النفسية المُعاش من خلال:-

عمل مُسوحات نفسية مجتمعية للتعرف على واقع الصحة النفسية، ليشمل الأمر شؤون تعزيز الصحة النفسية وليس مجرد البحث عن الاضطرابات النفسية فقط، ومعرفة ما أُشكل منها وفق فريق متخصص، ولعله يرتبط مباشرة بالمشروع الوطني لجودة الحياة، ضمن الرؤية المباركة «2030».

بناء مشروع وطني مركب وممنهج «Structured» يستهدف تعزيز الصحة النفسية والوقاية من المرض النفسي وفقا للمعرفة والبينة العلمية «Evidence-based» بمرجعيات عالمية متخصصة وشركات في ذات الشأن، ليشمل الفرد والأسرة والمجتمع وكافة قطاعات الدولة ومؤسساتها المختلفة والخاصة، وتجاوز المحاولات المتناثرة، كخطبة جمعة، لقاء درس يومي، حوار عابر، استهداف شريحة مجتمعية بعينها، نشاط توعوي مقتضب، مطوية أو كُتيب... إلخ.

إنشاء مراكز تخصصية إلزامية للإرشاد النفسي «Psychological Counseling» مزودة بمختصين نفسيين «عاليي التأهيل» في علم النفس الإرشادي، ليغطي كافة قطاعات الدولة المدنية والعسكرية والخدمية خاصة، وكذا الشركات والمؤسسات العامة والخاصة، كتدخل نفسي- أولي- إرشادي قبل استفحال المشكلة النفسية، لتصبح مرضا حديا أو مزمنا.

دمج الصحة النفسية الوقائية والعلاجية مباشرة بمراكز الرعاية الصحية الأولية بأهداف واضحة وشراكات ومرجعيات عالمية، وتأهيل مختصين نفسيين لتزويد الرعاية النفسية «Psychological Care» ليتجاوز الأمر مجرد صرف العلاج الدوائي فقط.

وجود مستشفيات نفسية تخصصية «Secondary» بحزام نفسي، لتشمل أحياء المدينة الواحدة وليس مجرد مستشفى سعته 500 سرير يجمع المريض العقلي بالنفسي، والذي أشبه ما يكون بالملجأ «Asylum» مع إعداد فريق للصحة النفسية متعدد التخصصات بتأهيل عالٍ وليس مجرد التركيز على الطبيب النفسي ودوره وحده والعلاج الدوائي منفردا وإهمال بقية الفريق والعلاجات الأخرى الأشد حاجة والأكثر أهمية.

إيجاد مراكز تخصصية منفردة لعلاج الإدمان وأخرى للتشخيص المزدوج «Dual Diagnosis»، مع التركيز على برامج العلاج في بعده الفردي والتأهيلي والمجتمعي، من خلال فريق متعدد التخصصات لعلاج الإدمان وتوسيع قاعدة الإدمان، لتشمل ما نصت عليه منظمة الصحة العالمية أنه ضمن نطاق الإدمان.

إيجاد مراكز نفسية أكثر تخصصية «Tertiary» ذات طابع مختلف، لتشمل مراكز تُعنى بالانتحار ومراكز لعلاج الأمراض النفسية والعقلية الحدية والجرحات النفسية الوظيفية «Functional Psychosurgery» والعلاج النفسي المتخصص... إلخ، بمعايير عالمية لذات الهدف.

إيجاد ما يعرف بالمرصد النفسي الوطني والذي يعنى برصد الظواهر النفسية المرضية الجديدة، وكذلك نسب الانتشار والإصابة والحدوث وتزويد القطاعات الخدمية بما يُستجد للتصدي علاجا ووقاية، وكذلك إجراء البحوث والدراسات النفسية والمجتمعية ويُسند له صياغة التشريعات والنظم ذات العلاقة بشؤون الصحة النفسية في بعدها النفسي والحقوقي.

الجميع ليس مجرد خواطر «كاتب»، وإنما تنبع من حاجة ماسة، ولم يُعد الأمر مُجرد خيار، وإنما واقع معاش ومطلب وطني -كما نصت علية رؤية «2030» الطموحة- وعالمي وإنساني، تشترك فيه كل القطاعات ومؤسسات الدولة العامة والخاصة، الحديث لم ينته.