في عام 1960، كنت عاطلا عن العمل. وكانت العروبة نفسها عاطلة عن العمل، ويا ليتها ظلت كذلك، وكنت حينذاك ضيفا على مجلة «شعر»، وأسرة التحرير كلها ضيفة على صاحبها يوسف الخال، ويوسف الخال ضيفا على شارع السادات في رأس بيروت. في هذه الأثناء حل بدر شاكر السياب (بأناقته المعروفة) ضيفا على الجميع، وهو يمشي قدما في الشرق وقدما في الغرب بسبب تباشير الروماتيزم في ركبته، ولما كان بريئا وساذجا، ولا يعرف أن يتحرك بمفرده فقد كلفني يوسف الخال بمرافقته طوال إقامته هناك، وأوصاني وهو يسلمني إياه: لا تعذبه، إنه شاعر كبير.

ومن أول المشوار توطدت عرى الصداقة فيما بيننا، خاصة بعد أن أهداني في لحظة انفعال «كرافيت» من نوع سيلكا أو سمكا، لم أعد أذكر، عربونا على صداقتنا الأبدية، وبدأت مهمتي في إطلاعه على الحياة الثقافية في بيروت، فأخذته من ذراعه وقلت له: هذا هو الشارع الفلاني، وهذه هي السينما الفلانية. في هذا المطعم يجلس أركان الناصريين ليهاجموا القوميين، وفي هذا المطعم يجلس أركان القوميين ليهاجموا الناصريين والشيوعيين. وفي هذا المقهى يجلس أركان مجلة «شعر» ليهاجموا الجميع، متخذا كل واحد منهم أفضل طاولة وأفضل واجهة من الصباح إلى المساء على فنجان قهوة وخمسين كأس ماء بنصف ليرة. ما إن انتهينا من الشوارع العريضة والمناطق السكنية، وبلغنا منطقة الأسواق التجارية والشوارع المزدحمة بالواجهات والمتفرجين، حتى أخذت بعض المتاعب تواجهني في مرافقته، فقد اكتشفت أن المسكين لا يستطيع التسكع كالمراهقين أكثر من عشر دقائق أو ربع ساعة، بعدها يأخذ في الترنح والدوران حول نفسه وحول مرافقه، ولذلك كنت أجده في لحظة على يميني، وفي اللحظة التالية على يساري. وعندما لا يجد مرافقه إلى جواره، يدور حول أي شيء، حول عمود كهرباء أو شرطي سير، أو حول نفسه. ويتابع طريقه وحديثه عن الشعر الحديث والشعر القديم. وفي باب إدريس حيث رافقته لشراء بعض الهدايا «لأم غيلان» أتعبني أكثر من ثلاثة صفوف في سن الحضانة، إذ ما إن يمر بزقاق أو زاروب فرعي حتى يترك طريقه الأصلي ويسلكه، وما إن يرى أي باب مفتوح حتى يدخله باب دكان أو باب مستودع، ويتابع حديثه عن صلاح عبدالصبور وعمر أبو ريشة.

في الأمسية الشعرية التي أحياها مساء في بيروت، انقلب إلى شخص آخر لم أعرفه ولم أرافقه خطوة واحدة من قبل. حتى إنني عندما رأيته يحدق بالحضور فردا فردا بكل ثقة وثبات، خفت منه. وانتقلت من الصف الأول إلى الصف الثامن أو التاسع. ومن هناك أخذت أراقبه، كان كل ما فيه كبيرا، قلبه، موهبته، رأسه، أذناه، ما عدا جسمه. كان المسكين، رأسا. وعندما تقدم من الميكروفون تحت الإضاءة نصف الخافتة، لمحت ملامحه كلها، ولم يبق بارزا منها أمام الجمهور سوى أسنانه، كانت جاحظة من خلال شفتيه بوضوح فيزيولوجيا وأيديولوجيا حتى كادت تغطي الصف الأول من الحضور. ووسط الصمت المطبق، صرح بقصيدته الجزائرية الشهيرة «من قاع قبري أصيح حتى تضج القبور». وما إن انتهت الأمسية حتى كنت في الصف الأخير بسبب تدافع المعجبين والمعجبات للوصول إلى الشاعر الكبير، شاعر الحرية والثورة الجزائرية مُقرِّظين مهنئين. ولكن ما إن سلمت عليه أول معجبة وهي تتنهد حتى ارتخى، وأخذ يصرفني من بعيد بإشارات متلاحقة من يده. وكلما ازداد عدد المتحلقات من حوله بثيابهن الفاخرة وعطورهن المثيرة، ركبه الغرور أكثر وأكثر، وراح يحلق في أجواء من المواعيد الوهمية والأجواء الكاذبة. إذ قال لي ما معناه، بأنه يعتذر عن مرافقتي تلك الليلة وربما لا يستطيع أن يراني أو يرى غيري حتى بعد يومين أو أسبوعين. وعاد لتبادل كلمات الإعجاب والإطراء مع المتحلقين من حوله. ولما كانت السماء ممطرة، وأعرف جيدا هذا النوع من الانبهار وتبادل العواطف والمجاملات أثناء ارتداء المعاطف والتهيؤ للانصراف على أبواب النوادي والمراكز الثقافية، فقد أشفقت على بدر.

وعلى الرصيف المقابل فوجئت به يجلس القرفصاء وحيدا على عتبة فندق، فسألته.

ماذا تفعل هنا؟

ـ انتظرها.

ـ وأين ذهبت؟

- صعدت إلى غرفتها لتغير ثيابها.

ـ وإلى أين ستذهبان بعد ذلك؟

- لا أعرف.

فسحبته من يده وقلت له منفعلا، قم وكفاك جنونا، امرأة على هذا القدر من السكر والنعاس، أتظنها قادرة على تبديل ثيابها والتبرج لجنابك في هذه الساعة من الليل. أؤكد لك أنها لن تصل إلى غرفتها حتى تنام على لحافها وحقيبتها في ذراعها. فقال بدهشة، غير معقول، لقد وعدتني.

فقلت له: ومن هي التي وعدتك؟ سهير القلماوي، أنديرا غاندي؟ قم ولا «تشرشحنا» أمام الناس لقد طلع الفجر.

ونهض، ومر بنا حارس ليلي فقال: ماذا تفعلان هنا؟ فقلنا له: لا علاقة لك بهذا الأمر. نحن من رواد حركة الشعر الحديث. وانطلقنا في أول تاكسي باتجاه الفندق، ولكن في اللحظة التي وصلنا فيها وصل ترامواي وتوقف فترة هناك لجمع الركاب. وبعد أن ودعته، مضيت على أساس أن هذه الليلة انتهت على خير، ولكنه، وبدلا من دخول الفندق، دخل الترامواي وانطلق به، وأظن أنه بهذه الطريقة دخل الحزب الشيوعي من قبل.

*1987

محمد الماغوط

* شاعر وأديب سوري (1934 - 2006)

في الأمسية الشعرية انقلب إلى شخص آخر، رأيته يحدق بالحضور فردا فردا بكل ثقة وثبات، خفت منه، وعندما تقدم من الميكروفون تحت الإضاءة نصف الخافتة