ونحن نعيش أيام عزلة اجتماعية تُعدّ خبرة جديدة على المواطن لم يعتدها، عزلة قسرية عن المجرى الحياتي اليومي الذي اعتاد عليه، وهي قبل كل شيء عزلة وجدانية ضاغطة يمر بها الفرد، أثرت في علاقاته ومحيطه الاجتماعي، وهذا ما جعل كثيرا من الدول والحكومات تفرض العزلة على مواطنيها، وتفرض إجراء حظر التجول عليهم، لأنها تدرك أن العزلة القسرية تتعارض مع طبيعة الإنسان، الميّالة إلى العيش وسط الجماعة التي يشعر وسطها بالأمن والطمأنينة.

أعادت هذه الأحداث، ذكرى إحدى رحلاتي السياحية إلى إحدى الدول الآسيوية، ومصادفتي سُيّاحا أوروبيين كانوا يسكنون بالقرب من مقر إقامتي، وهم يحملون كمّا كبيرا من المؤن والمواد الغذائية والاستهلاكية، التي تفوق حاجة سائح عادي قد لا تتجاوز إقامته شهرا كمتوسط طبيعي.

كان منظر هؤلاء السياح لافتا، فهم يعيشون داخل مركب شراعي، وتلوح على محيّاهم وعثاء السفر، وآثار العزلة بكل ما تعنيه الكلمة.

وبعد تجاذب أطراف الحديث معهم، تبين أنهم يعيشون حالة سفر وترحال دامت 10 سنوات في تنقل مستمر، بين بحار ومحيطات العالم، على ظهر مركب شراعي صغير لا يمكنه مقاومة الرياح العاتية والأمواج الهائجة، في عزلة اختيارية طويلة جدا، لا تقطعها إلا الحاجة لإعادة تموين هذا المركب الصغير وركابه المغامرين.

حالة غريبة جدا، أن ينفصل هؤلاء المغامرون عن المجتمع لـ10 سنوات، وهي عزلة طويلة دون شك، للعيش وسط البحار والمحيطات على ظهر مركب شراعي صغير، بعيدا عن صخب المدن وحياتها المتسارعة والمادية، البعيدة عن الروحانيات والحاجات الدينية.

وسواء كانت العزلة جبرية أو بمحض الإرادة، نحتاج أحيانا أن نهرب ونتحرر جسديا وروحيا من عالم المدن الصاخب، الذي يضع مفاهيم وقيم مجتمع السوق فوق كل اعتبار، حتى دلف بنا هذا المجتمع المادي دهاليز الاغتراب الاجتماعي والنفسي والروحي، فأصبحنا في حالة صراع بين قيمنا العزيزة وبين قيم السوق المفروضة علينا، حتى أصبحت لدينا قناعة مغلوطة بأن تبني قيم السوق يمثل في الحقيقة تبني مفاهيم وقيم الحياة الطبيعية، مع أننا في الحقيقة كلما توغلنا في حياة المجتمعات الصناعية، كلما ابتعدنا أكثر وأكثر عن الحياة الطبيعية.

لا شك أن الحضارة مفهوم ديناميكي، وصيرورة دائمة ومستمرة، والعزلة سكون، ولكننا نحتاج إلى هذا السكون ولو لأوقات متقطعة، فقد استطاع هذا الوباء الجديد -فيروس كورونا- خلال السكون الذي فرضه علينا، أن يعرّي مخاوفنا البدائية بسخرية مؤلمة، ويضعنا أمام حقيقتنا وفي مواجهة ضمائرنا، وجعلنا نشاهد مواطني دول ما يسمى «العالم المتقدم» وقيمهم المزيفة التي تنهار أمام الرغبة في البقاء، وكأن هذا الفيروس الذي لا نراه بأعيننا المجردة، أراد أن يرينا الخيط الرفيع الذي يفصل بين المجتمع المتحضر والمجتمع البدائي، ويكشف لنا زيف حضارتنا ومبادئنا. إننا -وبعد أن تباطأت عجلة الحياة اليومية- عشنا حالة وجدانية جعلتنا نعيد ترتيب أوراقنا، ونتقصى جوانب القصور في أفكارنا وأفعالنا، فبعد أن طغت علينا الحياة المادية، وتفشى فينا الغرور بعلومنا وعقولنا، صرنا بعد هذه الأزمة نحاول بعقولنا القاصرة فهم السنن الإلهية في مجرى حياتنا العادية، التي أصبح أكبر أمنياتنا أن نعود إليها مع أنها لم تكن تعجب كثيرا منا.

نحمد الله أننا نعيش في ظل حكومة رشيدة، وضعت الإنسان فوق أي اعتبارات اقتصادية أو سياسية، في وقت يصرح فيه مسؤولو الدول الأوروبية بأنه حان وقت مفارقة الأحباب، والعيش وفق معايير «مناعة القطيع».